الدنيا عيد ،والدكاكين مغلقة .مجموعات صغيرة من الناس تناثرت أمام عيني ، علي إمتداد رصيف الكورنيش ،وكأن هذه المجموعات الموزعة بحكمة، كانت تنتظر بزوغ الفجر ،صحيح أنه لا يوجد أثرا لمصلين ،أو حتي سرادق جمع تلك المجموعات ،قبل تفرقهم .لكن هذا لا يلغي فرحة العيد، ولا يستطيع أن يمحو صور البالونات التي تصعد إلي أعلي، مخترقة الفضاء،علي أصوات المزامير الملونه في أفواه الصغار . حوارات هادئة ،وباسمة ، تشبه الهمس . كنت كمن جاء من بعيد جدا ،وعبر أزمنة وجسور. اقف أسفل تمثال سعد زغلول ، أعتقد دائما، ومازلت ،أنه يرتدي بدلة سوداء وطربوش أحمر فوق الرأس ،وله شارب أبيض عظيم .تحركت من جانبه،واتجهت صوب الرصيف المقابل ،بجانب البحر ، وأنا يداخلني شعور أنني أحلم، وأنني في بداية الحلم .لم أجد غيره من معارفي، لم يغير محل إقامته ، ومازال علي قيد الحياة ،أغلبهم مات ،أو طوت صفحتهم الأيام والسنين ، فلم يعد لوجودهم أي أثر، سرت مرات عديدة ، في الشوارع ،وداخلي رغبة قوية في أن ألقاهم ،لكن هذا لم يحدث ،ولا مرة، مع الأسف،كأنهم هاجروا إلي بلد بعيد . هرولت هذه المرة خفيفا ،حرا ،كما لم يحدث منذ أزمنة بعيدة .راحت الذاكرة تقلب بحماس وشغف في كل الوجوه،من عشت معهم فترات طويلة، ومن قابلتهم صدفة ،ولو لمرة واحدة ،ثم مرت علي وجوه، ولكن بلا روح أو هيئة معنوية، أو حتي رمزية ،وهفت أرواح أخري، ملامحها مشوهة ،كأن وجوهها قد طمست ،أو تغيرت معالمها ،لكن العجيب أن حضورها كان كبيرا جدا داخلي ، وبالرغم من أنني لم اعد أتذكر معظم تلك الوجوه بشكل كامل،إلا أني كنت أتذكر شخوصهم بقوة ! ، لكن ،أين هم الآن؟ سمعت صوتا، مثل هاتف يقول :البعد يقتل العمر !
البحر أمامي،وكعادته ، يجدد حياته من نفسه ،تلقائيا، الأمواج تأتي من بعيد لتغسل البحر ،وفي تلاحقها تنطوي الأسرار، وتطوي صفحات ،لتفتح، في الحال ، أخري، أكثر جمالا ونضارة .تذكرت ،فجاءة أنني نسيت ،أن أحضر نظارة القراءة ،الأرقام صغيرة جدا ،علي شاشة المحمول ،لا تري . كنت قد طلبت منه ترك رقم التليفون في رسالة علي الخاص ،بعد حوار شيق، استجمعنا فيه قوة وروح الماضي.تركها لي، علي الفور . قررت الإستعانة بأحد المارة من الشباب ،فهم غالبا ما يتمتعون بنظر حاد ، ممتاز .كان يرتدي بنطال جينز ،بيلوفر أزرق ،ويضع سماعات علي أذنيه. وقف منهمكا وكله ثقه ، يمضغ لبان في فمه ،بعدما أشرت له ،فلبي النداء عن طيب خاطر . سجل الشاب الرقم، علي محموله ،ثم أملاه علي،فشكرته من كل قلبي .اتصلت به ،فرحب بي ،وأخبرني أنه ينتظرني .كنت قريبا من المنزل ،وبالرغم من ملامح العيد المبهجة ،إلا أنني خشيت أن أطرق بابه، دون ميعاد سابق ،فألقي ما لا يسرني ، ولهذا ،تلفنت له .وجدت جمعا ،فاقتربت منهم ،فالتفت أحدهم ،نحوي :أي خدمة يا أستاذ؟
قلت :منزل الأستاذ / أحمد عزت
فسارع رجل بدين يرتدي جلبابا رماديا إلي القول :من أتي من أوروبا قريبا .قلت : نعم ..هو ..هو
قال الرجل :خلف هذا المبني.
شكرته ،واتجهت صوب الشارع الخلفي .
كنت أعرف العنوان ،ولكنني أثرت الإستفسار كالغرباء ،ووجدت في نفسي لذة ،لم أجد لها تفسيرا سوي رغبة ضائعة، في إستعادة عبق اللقاءات الأولي. ..هو ..هو نفس البيت ،لم يتغير شيئا سوي تلك المرسيدس الزرقاء، الرابضة أمام المنزل ،سطعت في ذاكرتي صورته عائدا بكيس الفول في يد وفي الأخري أرغفة الخبز البلدي ...رباه كم مر من الوقت ؟ السحب تحدجني بنظرة قاسية، كقسوة ذلك الشتاء القارص .ضغطت علي جرس صغير ، لونه احمر ،ففتح الباب بسرعة ،وكأنه كان ينتظر وراء الباب .أضاءت عيناه ببريق خاطف ..ربما علي آخر لقاء جمعنا ،حيث مقهي ام كلثوم علي البحر ،هكذا حدست . .أهلا. .أهلا.. تفضل ، كان رده هادئا، ورزينا أكثر مما توقعت ،وفيما هو يوسع الطريق للدخول ،كسته صدمه مباغته ، عندما رأني أرتدي شورتا قصير ،لونه احمر وركبتي عاربه ،ما هذا ؟الجو صقيع ...كيف؟ .لم أعرف كيف أرد؛؟غير أنني شعرت بالخجل ،من ردة فعله ،لا من كوني أرتدي شورتا ،وبالرغم من أنني كنت ارتدي شرزا بني من الصوف فوق الشورت، إلا أنني لم أحس بأي شيء، غير طبيعي، أو أي تناقض ،كنت مشغولا به ،هو، لا غير .
جلست أمامه، في الصالة، علي فوتوي أصفر ،كانت الإضاءة قوية ،وتأتي من كل الجوانب .أما نظرته، فقد كانت تذكرتي بنظرة الأقارب، الذين رأوك طفلا ثم مرت سنوات طوال ورأوك وقد كبرت ،تلك العين ،ومع ذلك لم تخلوا من برود أو خبرة او الإثنان معا ! .انتظرت أن يسأل عن أحوالي، لكنه لم يفعل ،إزداد خجلي واضطرابي ،فقمت،علي الفور ، معتذرا، وأنا أقول :من الأفضل أن نتقابل علي المقهي ،سنكون أكثر حرية ،إلا أنه لم ينطق ،وكان ينظر إلي باندهاش،ثم فتح الباب وهو يرمقني بعينيه، حتي خرجت، فتحت بصعوبة عيني من شدة الضوء ،علي زوجتي، وهي تقف أمام الدولاب المفتوح عن آخره، تضع وترتب الملابس .الغيارات الداخلية في مكانها المعتاد .ثم البيجامات .لم ألتفت للساعة ،ربما العصر ! .
Post A Comment: