(لم يكن شيئا مذكورا..ان سار في الشارع لا يُلفت الانتباه..ان غاب عن مجالس الناس لا يُفقد..ان حضر اتخذ مكانا منزويا..لا يتصدر مشهدا ولا يتكلم الا همسا..لم يكن مهذارا..يعمل مثل نملة بصبر وأناة..لا يشكو ولا يتذمر..كأنّ عزيمته قدّت من صخر الجبال التي خرج منها وقضى فيها طفولته..طفلا نحيلا..ثم شابا مغتربا عاملا في عديد الوظائف في شتى بقاع الوطن..معتمدا على نفسه..لا يمدّ يده ولو بات على الطوى..
وله حكايات وقصص كثيرة مع الجوع وضنك العيش..مازالت راسخة في خياله وذاكرته..يمرّ أمامه دائما شريط طفولته البائسة وما عاناه من قلة ذات اليد..
كل ما مرّ به في صباه..من فقر وحرمان..اكسبه مناعة كبيرة ضد تقلبات الدهر..لم يعد يحفل بمباهج الدنيا عندما أتيح له ان يغرف منها ليعوض ما فاته..بقي في نفسه ما يشبه الحنين لحياته السابقة..كانه يتوق للحظات عاشها بملء قلبه وتفاصيل تأبى ان تغادر فؤاده....
ولد في عائلة وفيرة العدد..والده ووالدته..جدته لأمه..اخوته الستة..كلهم كانوا يعيشون تحت سقف واحد..كان هو الاوسط عمرا بينهم..وبفعل ذلك..لم يكن يحظى بالاهتمام اللازم..فقد درجت التقاليد على اعطاء اهمية قصوى للابناء الكبار لأنهم اولى ثمار العلاقات الزوجية..وللابناء الصغار لميول خاصة لدى اغلب العائلات في حبهم وايثارهم لآخر العنقود...جاء هو في مرحلة البين بين..لا طال بلح الشام ولا عنب اليمن كما يقولون..غير انه تكوّنت علاقة وثيقة بينه وبين جدته لأمه..التي تزوجت المرحوم جدّه..بعد موت والد أمه..جلبت صغيرتها معها وتربت في كنف بعلها الاخير..فزوّجتها لربيبها الذي هو والده..آثرته كما قلنا جدته تلك عن بقية اشقائه..واسبغت عليه حبا واهتماما كبيرين..كانت تهيء له طعامه وشرابه مذ كان تلميذا فتعوّد على كؤوس الشاي الأحمر من يدها الذي كانت تعدّه قبل الفجر..فأدمنه ادمان الولهان..وكان يقول انه لا يستطيع التوقف عن طهيه ولو اضطر الى سكبه في الرمل..فالمهم لديه أن يطبخه على الجمر كل يوم مهما كانت الظروف..!
نشأت بينه وبين جدته..ألفة عجيبة..مليئة بالحب الطاهر..هي تحنو عليه من غوائل الدهر..ترى فيه الولد الذي لم تنجبه فكل خلفتها كانت من البنات رغم أنها تزوجت أربعة مرات..فأغدقت عليه حنانا فياضا..ولم تحرمه شيئا مما يقع بين يديها...وهو وجد عندها الحضن الدافىء..اللين رغم ما عرف عنها من قساوة ظاهرة في سلوكها تجاه الآخرين..وهي الكتف الذي يسنده..في خطواته المتعثرة..وهي الركن الذي يأوي اليه اذا اسودت أمامه الآفاق..!
لم تختلف طفولته عن بقية من عاش في ذلك الريف البعيد البائس..يلهو بما تيسّر من لعب بدائية مصنوعة يدويا..من بقايا التنك المتناثرة..يتم تطويعها وصقلها لصنع مركبات مختلفة أو بترصيفها حتى تبدو كاحد المتاجر الفخمة..و أحيانا يقوم صحبة أقرانه بجمع قوقعات الحلزون الجبلي  لتكوين قطعان من الماشية..أو البحث في المزابل  عن أغطية قوارير المشروبات الغازية لاستعمالها في عمليات البيع والشراء  الموهومة..!!
ارتاد المدرسة على مضض..فحظه من التعليم كان متعثرا..مثل أغلب ابناء جيله..فطلب العلم لم يكن من اهتمام العائلات لأنه كان مكلفا..والدراهم القليلة تذهب لاسكات الأفواه الجائعة بدل صرفها في لوازم الدراسة..وطوال السنوات التي قضاها تلميذا لم يلبس فيها الا ما ستر..كان يتدبر ما يحتاجه كيفما اتفق..لم يمتلك محفظة الا في دراسته الثانوية..بينما كان يحمل كراساته وكتبه في جراب صنع من قماش أكياس الدقيق..وأحيانا في كيس بلاستيكي تافه أزرق اللون من تلك التي تباع في المتاجر بثمن بخس كتب عليها بالفرنسية bon voyage وليس لها في الحقيقة  علاقة بالسفر اطلاقا..فهي  تتمزق بسهولة..مما يضطره لوضعها تحت ابطه حتى يحافظ عليها من التلف..!!
سفره للمدينة جاء مبكرا..غادر حضن العائلة صغيرا..تلميذا في الثانوية وعاملا موسميا في المطاعم والمقاهي..وهو يفتخر بتلك الفترة من حياته حيث يردد دائما في زهو وثقة بأنّه اعتمد على نفسه ولم يثقل كاهل والده بمصاريفه..فقد تعلم من جدته حسن التصرف في القروش القليلة..مما جعله عفيف النفس..ذا أنفة وكبرياء..حريصا على سمعة أهله..فلم يفعل في حياته ما يخجل منه..استطاع بفضل الله ورغبته الدؤوبة في تحصيل العلم من نيل شهادة جامعية..فتحت له سوق الشغل..فتغيرت حياته للأفضل..لكنه بقي محافظا على طيبة قلبه ونقاء سريرته..!!)








Share To: