تتقاطع الكتابة في طقوسها مع العبادة، وإذا كان العابد يندمج مع الأدعية والتلاوة والأداء، فإن الكاتب يتماهى مع الألفاظ ودلالاتها، وإذا كانت الترنيمة ترتيلة دينية ينشدها المصلي في لحظة صفاء ليسمو بها، فإن الكتابة لحظة وعي يعيشها الكاتب.. ترفعه إلى سماء الإبداع.. هناك.. حيث تراقص الكلمات المعاني.. إنه الجمال الذي ينبض بالانسجام والتناسق، ويفتح ذراعيه للترانيم ليعانقها بدلال. ولكنها تختار القبح وطنا ترتمي بين أحضانه، وهنا يدرك العقل متاهة السؤال الذي يسير فيه عنوان هذه الومضات القصصية: فماذا عساها تقول الترانيم في حضرة القبح؟
هذا ما سيجيب عنه القاص المبدع " بشير خلف"من خلال النصوص التي تضمنها هذا الكتاب، حيث قسمه إلى ثلاثة أجزاء: تغاريد قصصية، لوحات سردية ولقطات فيسبوكية.
وتندرج تحتها مجموعة من العناوين الفرعية: كيدهن، فحولة، حب في المزاد، تمثيل، تعدد، من كرتون، إشاعة، راودته، حيرة، اختلاط، فقد، توجس، عرافة، لعبة الأيام، حنين، مودة ورحمة، ذوي القربى، اغتيال، جيل، الكبير كبير، موهبة، كوبوي، تسونامي، الفايكنغ، مذكرات، قابلية، بطولات، خيبة، طمع، مال، جزاء، فن معاصر، بديل، ولاء، شقيق.. عدو!، تدوين، مخدوع، حقوق، أقنعة، مفارقة، مرتد، عظيم، خصي، كاتبة، ازدواجية، مهمة، الحرف يرعب، توهم، فضاء افتراضي، ومشارك.
والقصة القصيرة جدا حسب " بشير خلف" هي فن اللحظات المفصلية في الحياة، تختطف اللحظة كومضة، تختزل اللقطات السريعة، وترصد المفارقات و المواقف. وفي ظل التحولات المعاصرة، التطور الرقمي وانبثاق النص الشبكي أصبحت القصة القصيرة جدا محاولة فنية ذات دلالة احتجاجية "وهي مصطلح اختزالي لنص روائي أوحكاية أوقصة بشكل موجز جدا، وتكون مكثفة وخالية من الزوائد والحشو الوصفي والاستطرادات" بشير خلف: ترانيم في حضرة القبح، الصفحة07.
1- تغاريد قصصية: بين الأنوثة والذكورة تقف الرغبة لترسم حلقة الوصل بين كيدها.. هي الأنثى التي تجيد الحضور وتحترف الغياب.. وبينه.. هو الشيخ الذي طوى من عمره السنين.. لكن فحولته استفاقت أمام مليحة مرت به، فجعلته يهتف: " لا عمر للشبق". هو الجوع للجسد والامتلاء بالاشتهاء كما في قصص: تمثيل، من كرتون، إشاعة، وشهوة المال كما في قصتي: حب في المزاد ودفء.
عندما ترتدي الحقيقة قناعا تصبح جميلة، وعندما يسقط عنها ينكشف أمامنا القبح.. الذي يفضحه الصدق أحيانا ويكشفه الكذب أحيانا أخرى. ففي قصة توجس يطلق أم أبنائه ليتزوج الشابة الجميلة، وعندما تسأله عن سبب الطلاق يرد: "تغضن وجهها، وترهل جسدها". عندها أعادت إليه خاتمه وسط دهشة الحضور.. هي الحقيقة بقبحها، فقد أدركت أخيرا أنه لايحبها ، بل يشتهي جسدها.. وبين العاطفة والجسد برزخ لا يبغيان.
وفي قصة عرافة.. تكذب وهي تلون وجهه بالمال والجمال والسعادة، وهو البطال الذي لا يملك ثمن فنجان قهوة، إنها الحقيقة التي تجملها بائعة الوهم وتبيعها بدنانير معدودة.
 أما في قصة لعبة الأيام، فيتجلى الفراق قبيحا.. يلتقيها بعد سنين.. يسأل عن حالها.. يلاطف فتاة جميلة ترافقها.. تودعه متأسفة على رفضها له ذات يوم، ولنفسها تهمس: "ليته يعلم أنها ابنة أخي ". وفي قصة حنين كان اللقاء بعد فراق دام نصف قرن في عيادة مرضى القلب، فخفق القلبان حنينا.. عندها تلاشى قبح الفراق واندثر.
2- لوحات سردية
الخذلان والتجاهل.. ينتظران المثقف بشغف، فيعيش غربته في وطنه وبين أهله.. إنها الحقيقة التي تجلد كل من سولت له نفسه الخروج عن الدائرة التي رسمها له المجتمع، والتي تطرق إليها أستاذنا "بشير" في قصة ذوي القربى، فقدر المفكر الكبير غربة أقسى من الموت.. هو الذي أنكروه حيا وميتا.. بينما حظيت أفكاره بالدراسة وشخصيته بالتقدير في بلدان أخرى.. إنه قدر المفكر وحظ المثقف!
وهو القبح نفسه الذي عاشه العالم الذي عاد إلى بلده فرحا من الجامعة الأمريكية ليجد نفسه في قسم الأرشيف، ففقد عقله.. قصة اغتيال تشخيص دقيق لمعاناة المبدعين الذين تغتال أحلامهم، فيكون مصيرهم الموت أوالجنون.
أما في قصة تسونامي، فتتجلى المفارقة بين الوعود الكاذب للمسؤولين وبين إخلافها، فها هو المواطن يسأل رئيس البلدية عن الغد المجهول بعد التسونامي الذي ضرب الأحياء الفقيرة بالمدينة.. فقد المواطن منزله.. أنهكه الجوع.. ظهرت الأمراض ولكن رئيس البلدية لم يستجب لأنه لا يسكن بهذه المدينة. 
وحال رئيس البلدية ليس ببعيد عن حال المترشح لمنصب سيادي في قصة مذكرات.. هذا الرجل الذي صدرت مذكراته مع انطلاق الحملة الانتخابية، وهو الذي لم يطلع على مذكراته بعد.. رجل لا يعرف عن نفسه شيئا.. لم يكتب شيئا.. لكنه يحترف الاستواء على عرش السلطة!
وفي السياق ذاته يتطرق القاص إلى ما وراء الانتخابات في قصص: خيبة، طمع، ومال ليميط اللثام عن الفساد الذي سرى في شرايين اللاهثين وراء المناصب.. المتعطشين للسلطة، وعن " المال الذي يقود السياسة" الصفحة 61.
3- لقطات فيسبوكية
في هذا الجزء يشير الكاتب إلى بعض الظواهر في مجال الأدب، ومنه الحضور الأنثوي الذي يطغى على الشعور النبيل والكلام الجميل، ففي قصة كاتبة ترتقي إحداهن إلى مستوى الشاعرة والروائية، وهي أبعد ما تكون عن الشعر والسرد، وتلقب بالكاتبة وهي الجاهلة بتقنيات الكتابة.
وفي قصة إزدواجية يفتح أحدهم حسابا فيسبوكيا،فلا يصله طلب صداقة، وهو الشاعر الذي يجلد اللغة بأخطاء لا تعد ولا تحصى. وبمجرد أن فتح صفحة بصورة حسناء نائلية تهاطلت عليه" طلبات الصداقة الذكورية.. عشرات التعليقات المنوهة بجمالية الشعر.. عذوبة الكلمات" الصفحة 86.
وفي السياق ذاته جاءت قصة توهم.. هي إمرأة أطلقت على نفسها اسم الكاتبة بدر البدور.. وكتبت: "حبيبي أعشقهو.. أتنمرو عليهي" الصفحة 90. وفي أقل من ساعة نالت كتابتها الكثير من الاعجابات والتعليقات.
وفي الصفحة 89 يشير القاص إلى التقابل بين الحرف والخوف من خلال قصة الحرف يرعب.. ويحكي قصة الكاتب الذي يشير إلى الفساد المتفشي والعبث بالبيئة، وهذا ما زلزل الأرض تحت أقدام المجلس البلدي، فاستدعي يوما إلى مقر الأمن.. وبعد ساعات وجد أن تهمته هي تعرضه لطريقة توزيع قفة رمضان.. الحرف الذي لا يخون الحقيقة يخيفهم.. ومع أن الحق أحق أن يتبع.. لكن الفاسدين له كارهون.
"ترانيم في حضرة القبح"ومضات قصصية تعددت أبوابها لكن مفتاحها واحد.. هو الإنسان بكل تناقضاته، وهي صورة مركبة معقدة اختزلها القاص "بشير خلف" في قصص قصيرة جدا عكست رؤيته الفلسفية وتكوينه المعرفي ومعايشته لمشكلات الإنسان.
وأكثر ما شدني إلى النصوص هو ألم الاغتراب الذي يعيشه المبدع.. ترنيمة حزينة يرددها في حضرة الواقع القبيح الذي لم يرحب به يوما.. وهو اللامنتمي - على حد تعبير كولن ويلسون - والمنفرد بلغة نيتشة.. هو الإنسان الذي ولد بكروموزوم الاختلاف في عالم يسوده الإئتلاف.






Share To: