ذات أعوام انتشلَت حرب ، ذهب جندي للدفاع عن وطنه ، و سعى الآخر للدفاع عن فقره ، و أم تفقدت ولدها بين الجثث المتراكمة ، و أب ناشد إبنه بالعودة من مكان نزوحه و الإبن اعتذر ، و جدَّة دعت على الحرب و لعنتها ، و حفيد ترك أقلامه الملونة لينادي أخته بالهروب من الرصاص ، أسرعَت أخته باتجاهه.. داست على لغم فتقطعت أشلاء على مقربة منه ، صاح الطفل لأخيه.. هبَّ الأخ لأخيه يضمه و يغلق عيناه من المشهد ، تغلَّق المشهد برصاصة طائشة على الأخ الكبير...

 لحظات... قارَب الحفيد حواجبه غاضبًا ، ببراءة أخذ معه حجارًا بإستعداد كما كان يحتمي بها من الكلاب الضارية ، عاد إلى جوار بيته و يداه مجنحتان و عليهما أربعة من الحجارة في كل يد حجرتان ، وصل إلى ركن بيته ، انخفضت يداه المجنحتان و سربلت ، بدأت الأحجار من يده تتساقط ببطئ و ترتيب ، و تتلاصق بالأرض و ينبعث مِن حولها الغبار ، كان ذلك الغبار ركام منزله ، أخفض رأسه ، جثى على ركبيته.. تبدلت الأحجار التي كانت على يده بأحجار الأنقاض لينتشلها ، لم يكُـ قويا بما يكفي ، بكى صامتًا دون حيلة ، في وهلة سمع النشيد الوطني ، ظن أن السلام عاد بهذه السرعة فوقف خاشعًا يردد السلام الوطني و دموعه تغيرت إلى دموع فرحة حب و سلام ، ثم تذكَّرَ أن ذلك النشيد الوطني كان نغمة إتصال على تلفون جده ، اخفض رأسه مُجدَدًا ، التقط تلفون جده ، و مسح على شاشته ليتمكن من الرؤية ، فإذا النازح أبو الحفيد كان يتصل لأبيه جد هذا الحفيد ، برعشة مرر إصبعه على زر الرد ، تحدث الإبن النازح على أمل أن الذي يرد على التلفون هو والده قائلًا : أبتي قررت أعود و اترك نزوحي فمعكم أموت أو أعيش... ابتلع الإبن حشرجات بكائه ، نطق بصوت بحوح : تأخرت يا أبي ، ثم تهاوى التلفون مِن بين أصبع يده لينكسر على الأنقاض ، رأى إلبوم صور أخيه قد توزعت منه كل صورة على حجر هناك ، صار يجمع تلك الصور و يرتبها بحسب مراحل عمْر أخيه لكنه افتقد إحدى الصور ، التفت إلى قريب منه.. وجدها ، و حاول إخراجها بينما هي عالقة ، أزال تلك الأحجار الصغيرة لكن الصور ما زالت متشبثة بشيء ما ، أزال التراب ، و على الصورة الورقية يد تمسك بها و بشِدة ، عرف الولد يد أمه.. من صدمته توقف عنه البكاء و جفَّت مدمعهُ ، يحدق بعينه مبلودًا هنا و هناك ، عكس على عيناه الصفراوتين شعاع على نهاية الركام ، اتجهَ إليه.. إشارة أخرى عن فقد شخص آخر ، كانت مسبحة جدته ، يبدو أنَّها أنهت دعاءها و شكواها لله تحت الركام.. 

وَمَضَت الأضواء حول الطفل ، سمع معها أصواتًا مليئة بالإستفهام ، ثم دار الطفل رأسه إلى حيث الأضواء و الأصوات ، فإذا هم نخبة صحفية ترافقهم الكاميرات يتجمعون مع الناس حوله ، اقتربوا منه ليسألوه.. انكسرت إحدى عدسة الكاميرات بحجرة من هذا الطفل قد رجمها عليهم ، و كأن الطفل يقول كفاكم تجعلوننا نشتكي لغير الله ، و يكفيكم التوثيق و المساءلة بعد أن يكون الفأس في الرأس ، و كأنه يقول اسألوا من فعل هذا ببيتنا ، بل فعلها كبيرهم فاسألوهم إن كانوا ينطقون.. حتى نكسوا على رؤسهم لقد أدركوا ما أولئك ينطقون ، و إن قالوا يقولون مالا يفعلون ، و كأنه يقول برجمته أفٍٍّ لكم و لِما تسألون..! 
ظلَّ الولد صامتًا ينسحب مِن بين علامات الإستفهام حتى توارى عن الجميع ، جلس أمام شباك إحدى المنازل يقرقع أصابعهُ و يرسم في الطين عائلته و هي مجتمِعة و على جانبها بيتهم المتواضع و حوله طيور على أعشاشها آمنة ثم حدَّث نفسه هذا نحن في الجنة ، حتى البيت اعتبره شهيدًا..
رفع رأسه بإتجاه شباك المنزل المقابل له ، و إذ بالقادة المتخاصمين يتصافحون و يتفقون على إستمرار الحرب بعد المفاوضات رأهم على شاشة ذلك المنزل ، سئم مِن بحوثات السلام ، و لم يتسنى له إلا إيجاد السلام الداخلي لنفسه بأي حالة كانت ، فقرر العودة إلى منزله الهالك ليجد بعض ألعابه ، ثم لعب لعبة الحياة الرغدة و طاف بألعابه حول إحدى الأنقاض التي كان يسميها العالَم أما ألعابه فهي ممتلكاته المتفرعة حول ذلك العالَم ، كان متفائلا بالحسنى ، أرهقه اللعب فالتمَس مِن العالَم أمل للإستقرار ثم وضع خدَّهُ على الرُكامة كـوسادة و نام على أمل الطمأنينة بإمتلاكه حجرة أنقاض لا يعرف الآخرون أنَّها أصبحت عالَمه المفضل..

ذات أعوام انتشلَت حرب ، عاد الجندي مِن موقعه و قال : فليدافع الوطن عن نفسه إن أراد الحياة ، و الآخر عاد و سعى للسرقة ليدافع عن فقره ، و أفتى عالِم للسلطة بجواز القتل عمدًا ، و دكتور تنازل عن العمليات الجراحية خشية متاعب الجرحى و فضاعة الجرائم التي على أجسادهم ، و استاذ جامعي يبحث عن عمل ، و شاب كان صالحًا غازَل فتاة ، و فتاة تتسكع الشوارع دون أن يهتم لها أحد أو يعيرها الإعجاب ، و قاتِل أصبح عمله مملًا يقتل فلا أحد يسأله لماذا ، و نباحات كلاب ملأت المدينة ، و متمرَّد حكم حارته ، و لص تربع الرئاسة ، و طفل في المهد يرضع من ماعز ، و مذاهب تقسمت إلى أديان ، و محافظات تفتَت إلى دوَل ، مات العلم و عاش الجهل ، و أما الأشباح الخضراء و الملطخة أيديها بالدماء تتجول أزقة الشوارع... لم أعد أعرف المزيد فـ مذُّ ذلك الحين لم تدعني أمي أخرج مِن منزلنا أو حتى أقترب من النافذة.


#عمر_القملي






Share To: