كان شاحب لم ينم من الأمس، قلق من وجع جعله يتقلب أرقا متأوه في فراشه، وفي صباح هذا اليوم قرر الذهاب للمشفى بعدما هدأ وجعه وقل قلقه وندرت تساؤلاته عن أسبابه وما أكله أو شربه، إرتدى ملابسه ببطئ ثم ألقى نظره للخارج عبر شرفة الحجرة، وجد الجو عاصف ينذر بالمطر، فكر في كونه سيكون مسرعا أكثر من اللازم وأنه سيتغلب على أثر الوجع بالحركة السريعه وربما ذهب السقم نهائيا ، وبدلا من زيارة المشفى سيذهب للفطور ويشري الصحيفة ويطلع الأنباء وينسى ويكمل يومه حتى الظهيرة فيعود للراحة والنوم الذي حرم منه طيلة ليلته؛

على طول الكورنيش أمامه لم يكن هناك أحد، إلا ما يبدو بالون باللون الأحمر كلما إقترب تأكد أن شخصا يقف بمظلة ينتظر السماء أن تذخ مائها، إقترب قليلا وفكر في العودة لجلب المظلة ، نظر للخلف ولطول الطريق وما قضمته قدميه منه كان هنالك الكثير سيعاود إلتهامه، بينما المشفى على بعد دقائق، والمقهى على بعد ثوان والسقم والمرض لم يكن ببعد أو خاطر، فصوب إهتمامه نحو المقهى ونشب داخله إحتياج للقهوة الصباحية المرة، وإشتعل في إهتمامه مطالعة أخبار فريقه المفضل لكرة القدم بعد مباراة الأمس عندما عزله المرض في شقته وحيدا يطارح التعب الذي حرمه من متعته المفضلة لمشاهدة فريقه،  مر جوار فتاة بمعطف رمادى يتسلل لأنفه عطر مألوف يحبه، وثبت نظراته لأمتار بعيدة، يمرق المقهى بطرفها ويستهويه العطر كلما إقترب، نفذت الرائحة لعقلة يساعد على نفاذه تيار هوائي بارد يجلب كتل فواحة من العطر، لوهله تذكر صديقته كانت هي المكتشف له، لمكان صناعته وتجارته، تجاوزها ببضع خطوات، توقف كأن الهواء يدفعه للخلف يساعده هو بلا مقاومة إستدار حتى يتجنب التيارات البارده يستر أنفه يغمض عينه ينتظر مرور سحجة الهواء الرخيمة، تمر فيرفع رأسه قبل أن تباغته عطسة قوية تجلب إنتباه الفتاة، تنظر له و تتزحزح المظلة الحمراء عن رأسها قليلا يتطاير شعرها للخلف تضع يمناها فوق أنفها في ذات اللحظة التي يقتنصها لإشباع فضوله والنظر في وجهها، تنظر له بإستغراب مزيلة ليداها لتلاحق شعرها بالسيطرة، يوارب نظراته مجيب لنفسه، ليست هي؛

يصرع للمقهى يدخل على جمع مريب من الناس المكتنزة بالمعاطف والكوافي هجرو الطرقات إلى الدفء بالداخل، هناك طاولة واحدة بلا مقاعد حولها، يلاحقة النادل بمقعد خلقه من العدم، يطلب القهوة والجريدة ويجلس، بعد دقيقة تدخل الفتاة، تطوي المظلة وتحوم بالنظر هنا وهناك، يلاحقها سريع الحضور بدوره، النادل يتأسف، يستطيع جلب مقعد آخر من الخفاء لكن هنالك طاولة واحدة إن كانت مستعدة لمشاركتها مع شخص توضع قهوته وجريدته أمامه الآن، بلا أي إيماءة تسير تجاه الطاولة وقبل أن تضع مظلتها أمامها يحضر المقعد وتجلس وتطلب القهوة، تمر ثوان وتوضع قهوتها، بين الرشفات المتبادلة في تحد غير معلن، ونظرات تحمل الخسة في تسللها ومراقبة تستشف الأفعال بأفكار تستنبط المستقبل، لرغبات نازعة لخوض حديث، تمر لحظات غير قليلة، يطرأ عليه الوجع مجددا طعنات في جنباته، لعلها القهوة على خواء معدته، يحاول التماسك قبل أن يقرر الذهاب للمرحاض، تلاحظ هي طيه السريع الغير مرتب للجريدة و وإلقائه إيها بإهمال أمامها مع نظرته الشاكية لعينها وهرولته السريعة للمرحاض ممسكا بجنبه، تشك في القهوة أمامها تأخذ بريبة رشفتها الأخيرة، يظهر أمامها ولم يحدث أي تغير فيبدو أن الأمر يشتد، يخرج مسرعا بعد دفع الحساب، يسير خطوات ولا يقوى، يجدها تزلف عن المقهى تقف لفينة قبل أن تسأله، يقول بأنه الألم من الأمس وسيذهب للمشفى القريب لابد من هذا، تجده لا يقوى فتلتفق يده لتساعده؛

بعد بنايات ست يظهر المشفى، تتركه عند عيادات الطوارىء، يغيب لنصف ساعة ويأتي، يجدها على مقعد الإنتظار تراقب طفل يهرول بالخارج تبدو قلقة من عبور الطفل للطريق، تقف مراقبة حتى يختفي الطفل في النهاية، تلاحظ قدومه، تسأله عن حاله الأن، يجيبها بتقرير الطبيب، قليل من البرد في المعدة إستدعى حقنه مهدأة لتقلصاتها ووعد بعدم تناول القهوة على خوائها، سألته أين سيذهب وإن كان بحال أفضل لتتركه، أجابها بأنه سيعود للمقهي وقبلها سيشري فطور لكلاهما إمتنانا، تأسفت له لأنها على موعد عمل، تشعر أنها تصدمه قليلا فتوافق على شراءه لفطورها كنوع من تقبلها شكره إياها، يجلب من متجر قريب القليل من الكعك المقرمش في كيسين منفصلين، يسيرا صامتين متجاورين إلا من نظرات تتفاوت أحيان وتلتقي أحيانا فيعقبها الإبتسام والشكر المتبادل على مساعدتها إياه وعلى فطور إمتنانه لها، بالشكر المجبر والرد الممل وصلا مدا أيديهما بالتحية فسلما على بعضيهما وذهبت، دخل وكان المكان أخف في زحامه عن السابق، طاولته في الواجهة مازالت تحمل الجريدة بجانبها المظلة، شعر أنه يجب أن يلاحق الفتاة بالمظلة، ثم عدل عن فكرته بالجلوس وإنتظارها، جلس ينظر للباب غير مرتاح فوجد أنه من غير اللائق أن يتكاسل عن رد المظلة لصاحبتها، هم يتناولها في اللحظة التي تدخل هي فيها، تمطر بغزارة في الخارج، يحاول الإستذكاء بالإبتسام والقول عدتي لأجل المظلة، تبتسم بخجل وتدركه بالإجابة لا بل من أجل الفطور؛

يدور حوار يستفتحه هو
- ماذا عن موعد العمل!!
* أخرته للظهيرة وتحججت بالأجواء.
- حسنا ما الذي تفعليه بعملك، أي إختصاص هو؟
* بالحقيقة أنا لا أعمل، كان موعد مع خطيبي كنا سنزور متجر لزي الزفاف القريب.

ظن لوهلة أنها تخدعه، قد تكون تحاول منعه عن الخوض في تساؤلات شخصية، يطرأ على ذهنه أن يفرغا من الفطور ثم يودعها وينتهي الأمر، هي تسأله.

* أي إختصاص تعمل
- مصور في الجريدة المحلية، للأحداث الرياضية غالبا، آخذ لقطات الأهداف والتعابير المميزة لللاعبين أثناء اللعب.

* بالسترة الصفراء خلف المرمى أهتم لمواقفكم المضحكة، أجدها غريبة إنفعلاتكم.

- تكون السترة بالأخضر أحيانا، أتتابعين الكرة.

* لا أتابع المصورين والجمهور وجميع المواقف المضحكة.

- كموقفنا هذا؟

* أي موقف!!

- أقصد هذا اللقاء برمته وتعبي والمشفي وجلوسنا لفترة معا الآن وتضييع موعدك أو تأخيره ومن قبل اللقاء الباهت على الكورنيش في أجواء الشتاء القاسية، أقصد أن تصريفات القدر مدهشة وتقلباته مضحكة.

* الموقف ليس مضحك، وحقا إلى الآن تدهشني تلقائية الأفعال التي تبدر عنا، حتى حديثنا، لايوجد سابق تعارف حتى ندفن كلمات ما ونتغاضى عن عتقها، أم أنك حبست شيء ولا تريد إطلاقه؟

قالت بمبادرة بريئة لجذب المرح للحديث، لكنه فاجئها بفظاظة.

- في الحقيقة نعم!!، لا أرى خاتم للخطبة بأصبعك.

ببطىء مع نظرة خيبة وإنزعاج طفيف، أدخلت يدها جيب سترتها وأخرجت الخاتم ترتديه.

* كادت يدي أن تتجمد فخلعته بعد أن آلمني و قبل أن أتجمد أنا بكامل بدني هذا الصباح أمام النهر وتتملك مني رعشة البرد ولا أقوى على الحراك وقبل أن ألاحظك تمر أمامي مهرولا للمقهى، لكنك أنستني أمره.

إنتابه الحياء وبدا يتأسف، وهي بدورها تعبر عن عدم إنزعاجها فيلتفا بؤبؤا عينها لليمين تشرد في فكرة طارئة على عقلها.

* لكنها محاولة ذكية منك، ..... ثم تقول مداعبة تخفف وطأة الإحراج، ليس بتلك السرعة إنك على الأقل الآن حزين ولا تبدي هذا الحزن.

يبتسم ولا يستطيع مجابهة الدعابه بأخرى لأنه شعرها صادقة تكشف عن ما تم بالفعل، بدا يتردد ثم إستدعى تلقائيته مجددا.

- إنه عطرك، أألفه منذ زمن لرفيقة دراسة وأحبه، عندما لفحته أنفي عن أثرك قلت ربما ألتقيها مجددا و لما رأيت أنكي لستي هي حزنت بالفعل، لكن عندما دخلتي علي من هذا الباب وجلستي أمامي إختلست النظرات لأتأكد ثم مر بذهني شريط ذكريات طويل جدا ، اتعرفين حينها تمنيت أن أخبرك بهذا، ويبدوا أنه يوم حظي.

* أكنت تحبها؟

- أحب الأماكن التي تواجدنا فيها حتى مع جميع الرفاق، لم يحدث بيننا تقارب ما ، كنا ببساطة أكثر من صديقين مقربيين، لكن تلك الحدود التي بحرصنا تكبلت كانت منتهى الطعن في أن الأمر كان مجرد صداقة.

* وتزور تلك الأماكن من حين لحين!!، ما الذي فرقكما؟ 

- أنا لا أغادر بجسدي شقتي وعملي وأي مقهى يصنع قهوة مرة لذيذة، وأيضا لا تغادر روحي هذا البدن، الأماكن هي التي تزورني ولا تعوض أبدا إحساسي الغير مبرر وشعوري بهجرها لي فظاهريا لم يحدث شيء نتعلق به ويجمعنا مجددا.

*أتعلم!!،  ما رأيك أن تعتبرني هي وتعترف لي بكل ماتريد قوله لها ولم تواتيك فرصة.

- لا أدري، حقا لا يمكنني قول شيء.

يضحك، يضحك كثيرا، تنظر له بإستغراب كأنها بدت غريبة الأطوار، بدت تنزعج، يلاحقها بالقول.

- لم نذكر إسمينا حتى الآن، أهذا أفضل، حتى لا تعلق بيننا ذكريات أعاني منها.

* أتظن أن لقائنا الغير منطقي هذا سيكون ذكرى وتاريخ ضمن ذكرياتك التعيسة.

- لن يكون ضمن شيء، لقد محى كل شىء، لم أسعى لهدم ذكرى سابقة وها هو كل شيء يزول، ربما مرور الذكريات الماضية كلها دفعة واحدة عن الصديقة كمرور قطر لم يكن لي نصيب ركوبه حتى يشرف الآخر ولا يتبين أن لي حظ معه هو الآخر، يبدوا أنكي لو ذهبتي وعدتي بعد عام ستجديني هنا بالمقهى أو بالأحرى محطة القطارات.

* ربما وجدتك مع قطار آخر.

- ربما!!!، لكن هل سأتذكرك، هي ذكرى وحيدة في يوم بدا ينضج هل تظنين أني سأقوى على محوها.

* لا أعلم دع الحكم لحينها، ربما ستقول بينك وبين نفسك، كان مجرد فطور.

- حقا!!،  إنظري إلي يا هذه، إني وحيد سأعيش على هذه الذكرى حتى أقابلك مجددا ربما بعد عام فتمحها لي بذكرى أخرى، ربما نظرة باسمة مختلة برفقة طفل يشبهك، إلا لو كنتى لستي تقيميين في المدينة. 

* أنا لست ياهذا من تلك الأنحاء فعلا، لكن أتمنى أن لا تلقاني بطفل يشبهني قبل أن ألقاق بطفل يشبهك، حاول ألا تكون حالم هكذا، ما برجك،أنا السرطان.

- أمممم حقا!! أنا الحالم إذا؟، أنا ميزان، عاصف متقلب مختل أحيانا، أعرف!!!، أكان مجرد فطور؟

* نعم كان فطور فحسب، ولكنه ذكرى قابلة للإنتاج.

نظر للتي تحولت فجأة بكلمات تحد هذا الإنجراف

* سنتمنى ألا نتقابل مجددا لأننا سنبني على هذا اللقاء أحلامنا السعيدة.

- أرجو ألا تعتبريها خيانة لرفيقك المحتمل.

* محتمل!!، بسخرية قالت، تأكد سأكون حذرة، سأبتسم لك ببراءة وعفة وطهارة، ولن تزورني بالتمني والرجاء بل سأشاهدك في كل ممتنع جماله في عدم الإقتراب منه، إننا إنجرفنا ولم ننجرف، بحذر إستمتع بقهوتك التي ستطلبها وبسماتك للذكرى التي ستدوم دوني، علي الرحيل دون أسف، إستمتعت بالفطور الرخيص، والحديث الذي لا يوصف، سأذهب لحبيبي، سلام.

- أنا صاحب هذا الحظ السعيد، سأكون هنا دوما في محطتي لن أغادر، إن إستهواكي صفير القطارات، سلام أيتها الرقيقة.

رحلت يراقبها، عبر الباب، ثم الواجهة الزجاجية،لم تلتفت له  لكنها بدت من زاوية رؤية طفيفة تبتسم وتسير كأنها ترقص،  تتمايل وتحرك يدها بالتبادل وتقفز أحيانا ،أشار للنادل، طلب القهوة، يفاجأه النادل.
نسيت خطيبتك مظلتها مرة أخرى، قال له، نعم سأحملها لها إطمئن.
كانت محض رفقة لفطور سعيد، قالها حالما.

تمت
#رامي حلبي






Share To: