كلٌ منا يبدأ حياته حالماً،يحلم بدور البطولة ويحلم بالحب والسعادة والنجاح،فيلامس السماء محلقاً بجناحيه لا يعرف حدوداً أو مستحيلاً..تبدأ أحلامه منذ الطفولة فيرسمها على دفاتره وكراسة رسمه وجدران روحه قبل جدران منزله..ولا تبدو الحياة قاسية ً إلا عندما تتقوض فيها مساحة الأحلام،وأحياناً يمر البعض في حياتك حلماً أو درساً يفتح قلبك وعينيك على مالم تره من قبل،أو رأته بشكل ٍ عابر لم تتمعن في تفاصيله لإنشغالها وازدحام أفكارها ومخيلتها بالكثير واللامرئي للآخرين..

ونلمح في الطرقات الكثير من المشاهد التي تلخص لنا واقعنا دون شرحٍ مطول،وبالنسبة لي تحمل الطرقات ِعبَر الماضي وصور الحاضر ومخاوف الغد ورسائل يجب علينا أن لا نتجاهلها،لأنها كثيراً ما تبدو وكأنها كتبت خصيصاً لأجلنا،ربما سيشكو أغلبنا من زحامٍ مروري أو قمامةٍ ملقاة على قارعة الطريق أو قلة النظام أو سلوك البعض لكن قد يخرج من بين هذه المشكلات شيء ٌ أكبر بكثير لكننا نتعامل معه بشكل ٍ روتيني،فنلمح العديد من الأطفال التي تبحث عن طعام ٍ وسط النفايات في صمت دون أن تطلب شيئاً من أحد،ونلمح البعض يبيع المنتجات البسيطة أو يعرض خدماته في تنظيف السيارات أو تلميع الأحذية،ونجد أيضاً من يتسول باحثاً عن مساعدة،ويكون التجاهل هو رد فعل الأغلبية أو إلقاء اللوم على أهلهم أو حتى تصويرهم على أنهم وحوشٌ ومجرمون وخطرٌ على المجتمع، فيما ينظر بعضهم أيضاً في نفس الوقت بإنبهارٍ إلى أسماءٍ لا نعرف فعلاً ما الذي تقدمه وما قيمته وأثره على الأجيال الناشئة والذوق العام ككل،مع وجود (تكريمٍ دوري) لها مع أنها لم تقدم شيئاً ذا قيمة طيلة حياتها،كما أنها لم تواجدها محصورٌ منذ سنوات في الظهور السطحي والإستفزازي على مواقع التواصل الإجتماعي والتي تقيس قيمة الإنجازات بعدد المتابعين المشاهدات وتسجيل الإعجابات..

فيبدو المشهد كلوحةٍ سوريالية،خاصةً عندما تطالعنا الآراء الفذة حول هؤلاء الأطفال الذين يحاولون اقناعنا بأنهم يمثلون ويمتلكون بفضل تسولهم سلسلة ً من العقارات والسيارات والمحلات التجارية الكبرى،وتتلقفها بعض الأدمغة الساذجة لتريح نفسها من التفكير في مسؤوليتها تجاه هؤلاء الأطفال،وربما سمحت لي الفرصة لأتحدث معهم مراراً وأرى حياتهم ومسكنهم،فأحياناً لا يوجد مكانٌ ثابت لإقامتهم فيتنقلون بإستمرار بين دور العبادة والحدائق العامة والمنازل المهجورة بالمشاركة مع الحيوانات الضالة،وكثيرٌ منهم مجهول النسب أو لا أب له،فلا يعرف من هو ولا يحمل أيضاً أي أوراق ٍ ثبوتية في حال احتاجها إذا اضطر لدخول المستشفى لأن الإلتحاق بالمدرسة أمرٌ غير وارد وسط هذا الوضع المعقد..

كما أن الكثير منهم يعمل في مهنٍ شاقة بأجورٍ متدنية لفترات ٍ طويلة تمتد حتى ساعات الصباح الأولى ويتعرضون فيها للمضايقات والتنمر والعنف ومحاولات الإختطاف والقتل والتحرش الجنسي والإغتصاب،واللافت هو اشتراك جميع هؤلاء الأطفال في صفتين متناقضتين هما البراءة الشديدة والوعي الزائد بوضعهم المادي والإجتماعي فلا يأملون بما هو أكبر من الأمان وفتات طعامٍ يسد جوعهم،وماعدا ذلك هو مجرد أساطير قد يحققها احسان أحدهم بتقديم وجبةٍ ساخنة ومشبعة له ولرفاقه،والتي كثيراً ما يدخرون منها لبقية إخوتهم أو والدتهم لصعوبة الحصول عليها مجدداً بالنسبة لهم..

وقد يبدو السؤال الأصعب أمامهم هو ماذا تتمنون؟ بماذا تحلمون؟ وفعلاً يبدو ذلك أمراً صعباً لطفلٍ لا يعرف حتى كم يبلغ من العمر وقد يقضي ١٢ ساعة أو أكثر من التنقل المتواصل في الشوارع دون طعام،ويخاف من العودة إلى مأواه إذا لم يجني مبلغاً من المال،أو بعضاً من الغنائم التي قد يجدها بين النفايات، أو من عطايا المارة والتي يتم إعطاؤها في نهاية اليوم للمسؤول عنه شكلياً سواءاً كانا والديه أو أي شخص ٍ ينام تحت سقفٍ يخصه..

هؤلاء الأطفال الذين يحلمون بالألعاب والعيد والثياب الجديدة لا يختلفون عن أطفال ٍ أيٍ منا، لكن قدرهم جعلهم يولدون في مكان ٍ آخر ويتحدثون ويفكرون بطريقة ٍ مختلفة لأنهم لم يجدوا أفضل منها،وهؤلاء الأطفال يفتقدون كل حبٍ وعاطفةٍ وحنان،يعيشون في عالمٍ من الخوف،الخوف من كل شيء حتى لو كان جميلاً لأنه ربما يكون فخاً لهم كما علمتهم الحياة،الخوف حتى من لمسة عطف لأنها قد تأتي من شخص ٍ لا ضمير له يريد إشباع غريزته القذرة مع هذا الطفل،فأي حياةٍ تلك التي لا أمان ولا حب فيها،وتقام فيها ولائمٌ على شرف من ماتوا جوعاً،وتتأرجح فيها الطفولة كسلعةٍ بين أهلٍ يستخدمونهم لتحقيق نسب مشاهدةٍ عبر عرض لحظاتهم للناس،أو تشغيلهم للمتاجرة ببرائتهم طمعاً في الصدقات أو اتماماً لصفقاتٍ في عالم ٍ يدعي حب الأطفال وحمايتهم،فيلومهم بشدة عندما يكبرون بعد أن أدار ظهره لهم في الوقت الذي كانوا فيه بحاجة ٍماسة إلى أي بادرة عطفٍ واحتواء..









Share To: