-الجزء الأول-


-"صباح النور يانور قلبي."

-"صباح النور ياقلبي.. ماهذا؟ هدية؟.." – نظرت إلى العلبة الموضوعة فوق مكتبها قرب الحاسوب المحمول، ابتسمت ثم أردفت:

-"باقات شكر ياأحمد!."

بعد سماع اسمه الذي تلفظته خولة برنة موسيقية دخلت شرايين قلبه، ثم خرجت على شكل لمعان يشع من عينيه الزرقاوين، همس لها قائلا:

-"لو أستطيع شراء العالم لك، لفعلت."

فتحت العلبة الذهبية اللون.. إنها علبة ألوان زيتية وفرش وقلم رصاص.. قالت له بصوتها الشجي:

-"تشجعني على الرسم رغم أنني لا أجيد هذه الهواية."

-"بل أنت رسامة ماهرة.. ترسمين ماتحسين به.. تشكلين من الألوان عالما حساسا يعبر عن أشياء نشعر بها ولا نتجرأ على الحديث عنها."

قبل أن يكملا حديثهما سمعا صراخ امرأة ورجل وكأنهما يتشاجران.. سألها:

-" ترى من كان صباحه كالعاصفة الهوجاء؟"

-"إنهما عادل وشجون، لا يكفان عن الشجار.. لم تتعود على سماع هذه الموسيقى الصباحية، لأنك عادة تكون في العمل في مثل هذا الوقت."

-"آه! هل هذا الشجار تسمعينه كل صباح؟ يبدو أنني يجب أن أتعود على الكثير من الأشياء في فترة الحجر الصحي.."

-"نعم عزيزي.. أنا أحسدني أحيانا على الهدوء الذي أعيشه مع أروع زوج في العالم."

-"احسدي عادلا وشجون فرغم شجارهما إلا أنهما يملكان زينة الحياة الدنيا."

-"الأرزاق بيد الله عزيزي أحمد، فربما حرماننا من الأطفال هو خير لنا.. رزقنا الله المحبة والمودة وحسن العشرة.. ومنح غيرنا البنين والبنات.."

-"أحس أحيانا بالذنب لأني حرمتك من الأمومة.. كان بإمكانك طلب الطلاق والزواج بأب فاضل لأولاد جميلين يشبهونك."

-"أنت ابني وزوجي وأخي وأبي وصديقي وحبيبي.. فلاداعي لتكرار الكلام الذي لايروق لي.."

-"الجو مشمس اليوم، لقد حضرت الفطور في الحديقة.. تعالي نستمتع بأشعة الشمس قبل أن تمطر.."
-"فلنذهب إذن، شهيتي مفتوحة اليوم."

جلسا في الحديقة يتناولان الفطور ويتبادلان الحديث الشيق والمعتاد.. أحمد يتحدث عن جديد التكنولوجيا وخولة تستمع إليه وكأنها تستمع إلى السير تيم بيرنرز لي. هي فخورة جدا بثقافة أحمد وإلمامه بالكثير من المعلومات في مختلف المجالات.
جهز لها خبزا بالخيار والطماطم والسلطة والجبن والبيض، قدمه لها قائلا:

-"أشهى شطيرة صحية لأروع امرأة سكنت قلبي." 

-"وأنت؟ أين شطيرتك حبيبي؟ هل أحضر لك واحدة."

-"لا حبيبتي، تعلمين أنني أكتفي بشرب القهوة وأكلِ قطعة خبز بالجبن."

-"أحب فيك هذا الاهتمام الذي يحافظ على ابتسامتي ونشاطي وحيويتي."

-"أحبيني لشخصي، ولا تحبي اهتمامي بك.. لأني أخشى ألا أستطيع يوما فعل ذلك، فتنسيني.."

-"وكيف لي أن أنسى من زرع الورد في قلبي.. ورش عطر الياسمين على ممرات حياتي.."

توقفت عن الحديث بعد سماعها صراخ شجون.. نظرت إلى أحمد، ثم قالت له:

-"لا أفهم شجارهما هذا.. قد يؤثر هذا التعامل غير اللائق بينهما على تربية الأولاد .."

-"للأسف حبيبتي فالكبار أحيانا لايأبهون لوجود الصغار إلا بعد فقدانهم أو بعد انحرافهم!"

سمعا صوت طرق على الباب، فاتجه أحمد نحو الباب الخارجي ليفتحه، لكنه وقف متجمدا بعد سماعه صوتا كصهيل الفرس:

-"تستعينين بجيرانك؟ أتظنين أنك هكذا ستهربين من واجباتك نحو زوجك؟"

فتح أحمد الباب ثم قال لهما:

-"تفضلا، نحن نفطر في الحديقة، أهلا وسهلا بكما."

مشى عادل وشجون متثاقلين نحو الحديقة، بينما كان أحمد يلحقهما بخطى واثقة... قال لخولة:

-"أنت محظوظة اليوم، هناك من سيشاركك فطور هذا الصباح."

أشار بيده إلى الكرسيين الفارغين ثم أضاف قائلا:

-"تشربان قهوة أم شايا؟"

-"أطعمتني سما هذا الصباح واكتفيت، لا أرغب بالمزيد"

-"سمعت ياجاري؟ يقول عن فطوري سما؟ كيف لي أن أتحمل هذا الرجل الفظ؟"

-"تتحمليني؟" -ضحك عادل بسخرية ثم أضاف قائلا:

-"من يتحمل الآخر؟ أتحدث؟ أم أكتم ما كتمته سنين في قلبي، حفاظا على العشرة التي بيننا؟"

-"أنا من تحملتك أيها الرجل الفظ! لم تكتف بإهمالك لي، وفرضك لرجولتك في الأوقات التي ترغب فيها أن تكون رجلا.. وانسحابك متى تشاء... كل هذا أستطيع تحمله.. لكن الذي طلبته مني الليلة لن أتقبله! ولن يكون لك ماتريد!"

-"إذن لا تلوميني إذا بحثت عن الذي أريده بعيدا عنك!"

-"افعل ما تشاء، لكن لاتلمني أيضا إذا فعلت نفس الشيء"

رفع عادل يده راغبا في صفع شجون، لكن يد أحمد منعته من فعل ذلك.

قال أحمد مخاطبا عادلا:

-"اهدآ! فلكل مشكل حل، ولكل باب مغلق مفتاح."

-"إلا بابنا ياجاري الفاضل! لقد أغلق منذ أغلقت كورونا الحانات والمقاهي!" -أجابت شجون بصوت حزين.-

-"أذهب للحانات لكي أجد الأشياء التي حرمتني منها ولكي أنسى الحزن والغم الذي يكسو جدار منزلنا!"

-"ماذا تظنون أنفسكم يارجال عصركم؟ نحن النساء نعمل في المنزل وخارجه، نهتم بالأبناء وبكم ونساعدكم ماليا، وتنتظرون منا أن نكون مثل الجاريات! تجدوننا متى شئتم وكيفما أردتهم! تبا لكم ولأفكاركم العوجاء! فإذا كان الزواج ضروريا لأن مجتمعنا الشرقي يفرض ذلك، فأنا أنسحب من مجتمعكم هذا!! لقد مللت ولاأستطيع أن ألعب دور الجارية بعد الآن!"

حاولت خولة تهدئة شجون وعادل قائلة:

-"أظن أنكما تماديتما في وصف الأشياء.. فأنتما متزوجان منذ أكثر من عشر سنوات.. ولديكما ابن وبنت ماشاء الله سيدرسان العام المقبل في الجامعة.. حاولا أن تحلا هذا المشكل بهدوء، ويستحسن أن تفعلا ذلك في منزلكما عندما تكونان وحيدين، فأسرار الزوجين يجب أن تبقى حبيسة غرفة النوم."

-"ماتقولينه يبدو منطقيا لكنه لا يتوافق مع قانون السيد عادل! فمعظم أصدقائه يعرفون أسرارنا! اسألي زوجك فهو يعرف الكثير عنا."

-"لا أعرف شيئا سيدتي، فعادل وأنا قليلا ما نتقابل ونتحدث."

-"وتلك الرسائل في الوتساب؟ماذا عنها؟ قرأت رسائلكما وحديثكما عن مشاكلنا يا سيد أحمد!."

-"ماذا؟ رسائل؟ وتساب؟ لا أفهم ما تقصدين سيدتي، فنادرا ما أستعمل هذا الوتساب.. أفضل الحديث في الهاتف مع أهلي وأصدقائي بدل الرسائل الصامتة."

نظرت شجون إلى زوجها نظرة القاضي للمتهم ثم قالت متسائلة:

-"ومن هو أحمد الذي كنت تراسله عبر الوتساب؟"

-"إنه جارنا الأستاذ أحمد.. أنت لاتعرفينه.. وكفاك غيرة وتتبعا لخطواتي، لقد سئمت من حصارك لي!"

-"تصرفاتك الطائشة هي التي تجعلني أتتبع خطواتك! أنا لاأغار من أحد! لكني أحذرك.. فقد تصاب بمرض فقدان المناعة بسبب طيشك!"

-"أنت مريضة نفسيا! يجب أن تعالجي.. فالتقاء الأصدقاء يحقق تبادل الأفكار ولن يسبب لي مرض الإيدز!"

-"كفاكما شجارا، وتناولا الفطور الشهي الذي أعدَّه أحمد بكل عناية ومحبة، فأنا لم أفطر بعد وأرغب في تناول هذه الوجبة الشهية." – قالت خولة هذا الكلام بعد أن نفذ صبرها ولم تستطع تحمل هذا الجو الكئيب في منزلها، ثم تناولت الشطيرة دون أن تنظر إلى ضيوفها.

كان عادل يراقب شجون بصمت، همس لها: 

-"أنا أيضا أَوَدُّ تحضير الفطور لك كل صباح، لكن عليك أن تلبي لي رغباتي كزوج."

كانت شجون شاردة في عالمها الخاص، تتخيل نفسها كالأميرة في منزلها مع عادل وهو يعاملها بلطف.. ثم فجأة استيقظت من حلمها عندما تذكرت إلحاحه مؤخرا على طلبات لاتستطيع أن تلبيها له لأنها تعتقد أن ما يطلبه حرام، لذا قررت هجرانه في الفراش. فثار كالأسد الهائج، وحاول بشتى الطرق أن يجبر زوجته على تلبية رغباته، لأن الذي كان يحصل عليه خارج المنزل أصبح مستحيلا بعد إغلاق الحانات بسبب تفشي فيروس كورونا في مدينة باريس.

ساد صمت رهيب بضع دقائق.. خولة تستمتع بفطورها وتراقب من حين إلى آخر أحمد الذي كان يتأملها بعينيه الزرقاوين الشبيهتين ببحر هادئ. وأما شجون وعادل، فقد فاءا عن غضبهما بعد رفض أحمد وخولة الاستماع إليهما. تناول عادل كوب ماء، شرب القليل منه ومنحه لشجون ثم قال:

-"اشربي القليل من الماء لعلك تهدئي."

وضعت كوب الماء فوق الطاولة، ثم قالت:

-"لستُ عطشى إلى الماء... سأرجع إلى المنزل، لقد اقترب موعد حضور سارة وسامي."

وقفت شجون ووضعت يدها على كتف خولة، ثم تابعت قائلة:

-"اعتني بزوجك كثيرا ياجارتي، فأمثاله في هذا الزمن قليلون."

-"لايخلو منزل من المشاكل الزوجية، فقط يجب أن تتحدثا بروية، وتحاولا حل المشاكل بهدوء." -قالت لها خولة هذه العبارة وهي تضع كوب القهوة فوق الطاولة. وقفت وقدمت يدها لشجون كي تودعها، لكن كلام أحمد جعلها تعزف عن ذلك:

-"لا تتصافحا، فالفيروس مازال موجودا! أعلنوا اليوم في الأخبار أن الفيروس المتحور متفشي في باريس وبروكسيل وروتردام ولندن. يستحسن ألا نتصافح، ونلتزم بالقوانين الصحية."

-"صدقت ياجاري الفاضل. نعتذر على إزعاجكما. طاب يومكما."
ختمت شجون زيارتها بهذه الجملة، ثم خرجت مسرعة وهي تتمتم
"يامن تأمن للرجال كمن تأمن على الماء في الغربال".

أغلق أحمد الباب بعد خروج ضيوفه، ثم تنفس الصعداء. وحين وصل إلى الحديقة قال لخولة التي كانت تنظف المكان:

-"ارتاحي أنت ياحبيبتي، سأقوم بذلك بدلا منك."

-"ننظف الحديقة معا عزيزي.. السماء أوشكت أن تبكي، فالغيوم الرمادية حجبت أشعة الشمس."

سمعت خولة رنة هاتفها الذي بدا وكأنه يرقص فرحا.. قالت لأحمد بصوت حنون:

-"إنه التجمع العائلي".
أجابها أحمد مبتسما:

-"شكرا لمارتن كوبر الذي اخترع نظام التلفون اللاسلكي، وشكرا لألكسندر غراهام بل الذي اخترع الهاتف الفعال، وشكرا لتيم بير نرز لي الذي كان له الفضل في وجود الشبكة العنكبوتية العالمية.. وكل الشكر لبريان أكتون وجان كوم اللذين أسسا الوتساب، وطبعا كل الشكر والامتنان لصاحب المواقع الافتراضية السيد مارك زوكربيرغ الذي يتيح لكم التواصل عبر الوتساب رغم بعد المسافات".

لم تسمع خولة ما قاله أحمد، فكل شغلها الشاغل كان النظر إلى أفراد عائلتها عبر شاشة هاتفها، قالت بصوتها الحنون:

-"أهلا أمي الحبيبة، أهلا والدي الغالي، أهلا خالد.." وختمت تحيتها بقولها:"سلام يا مشاغبة:"

-"مشاغبة وأفتخر.. فأنا من تدخل السرور والفرح للمنزل."

-"أمزح معك ياصغيرتي.. أهلا وسهلا عزيزتي خديجة."

-"لم أفهم لماذا اسمك خولة وأنت البنت البكر.. كان يفترض أن يسمونني خولة وأنت خديجة.. سرقت لي اسمي... أعيديه لي."
-ضحكت-

-"خلال فترة حملي، فقدت جارتنا أماني ابنتها خولة في الهجــمـات الإرهــابية في شارع (ألبيار) بباريس، وعندما ولدت كان رجاء أماني أن تحمل ابنتنا البكر اسم ابنتها. أما خديجة، فجدكم خالد هو الذي أصر على اسم خديجة نسبة لجدتكم خديجة حفظها الله وأطال عمرها."

-"وطبعا جدتي هي التي قررت تسمية أخي بخالد." – قالت خديجة هذه العبارة وهي تبتسم.

-"قال لي والدكم بعد زواجنا: ابني الأول سيكون اسمه "خالد"، هذه عادات عائلتنا، نسمي الابن البكر على اسم الوالد."

-"ووافقت دون مناقشة السي السيد يا سيدة أمينة." قالت خديجة هذه الجملة مبتسمة ثم أردفت:

-"أمزح معكما.. فقرار جدي وجدتي لا يعلى عليه قرار طبعا."

-"أين أنت ياخالد؟" - سأل السيد محمد ابنه -

-"أمارس رياضة المشي. الجو هنا ربيعي.. وقد سمح لنا بالخروج بضع ساعات في الهواء الطلق، لذا قررت المشي، لتقليل نسبة الدهون والسكريات في جسمي... فمنذ الحجر الصحي، وسهام لا تغادر المطبخ إلا قليلا، تطهي أشهى المأكولات، وأنا ضعيف جدا أمام وجباتها اللذيذة."

-"جميل يابني، فالمشي صحي.. أبلغ سلامنا لسهام والأولاد.. وأنت ياخديجة، كيف هي أحوالك الدراسية؟"

-"منذ بدأنا ندرس عن بعد فقدت بوصلتي.. الدراسة في الجامعة أفضل، نستوعب ما يقوله لنا الأستاذ ونتناقش نحن الطلبة.. لكن الآن نبذل جهدا أكبر ونفتقد التواصل مع الزملاء."

-"لا بأس يا ابنتي، هذه فترة عصيبة ستنتهي إن شاء الله.. نظمي وقتك، وادرسي، فالدراسة مهمة جدا كي تحصلي على وظيفة راقية."

-"وماذا فعلت خولة بشهادة الدكتوراه التي حصلت عليها؟ هي الآن ربة بيت."

-"لا تقارني نفسك بغيرك.. أختك قررت عدم العمل.. ولها أسبابها الخاصة لاتخاذ هذا القرار..كما أن أحمد يستطيع إعالة المنزل، وهو ليس بحاجة إلى راتب أختك خولة".

-"عزيزتي خديجة، الثقافة وتحصيل العمل ضروريان للرجل والمرأة. أما العمل فهو اختياري للمرأة، وضروري إذا وجب مساعدة زوجها."

- رَدَّتْ خولة على ماقالته أختها.-

-"خديجة، هل أنت الآن مع أختك خولة في باريس؟" -سألت السيدة مليكة ابنتها.-

-"لا يا أمي، أنا الآن في غرفتي في السكن الجامعي بمدينة أمستردام."

-"وكأنكما في نفس المكان. سبحان الله.. هذا الهاتف يقرب البعيد.. أنت في أمستردام وأختك في باريس وأخوك في لندن ونحن في المغرب.وكلنا مجتمعون في هذه الآلة الصغيرة."

-"نعم يا أمي، الحمد لله أننا نستطيع رؤية بعضنا البعض عبر الأثير، فإغلاق الحدود المغربية يقلقني."

-"لا تقلقي يا ابنتي، ربما كان هذا القرار في صالحنا، فمنذ سنين لم نزر المغرب.. أنا لا أعتبرني عالقة في بلدي، إني أستمتع مع أهلي بكل لحظة وأقوم بأنشطة لم يكن لدي وقت لممارستها من قبل."

قالت خولة لوالديها:

-" استمتعا بوقتكما هناك، لكن احذرا من تفشي كورونا.. البسا الكمامة واغسلا يديكما ولا تصافحا الناس وطَبِّقا التباعد الجسدي." 

-"استمعا إلى نصائح الدكتورة خولة." - ضحكت خديجة وهي تقول هذه العبارة.-

في هذه الأثناء كان خالد يرسل صور الطبيعة التي صورها خلال جولته الصباحية إلى مجموعة "التجمع العائلي" في الوتساب كي يتقاسمها مع عائلته.

-"صور رائعة ياخالد" أرسل أحمد هذه العبارة إلى المجموعة.

-"أحمد تعال." نادته خولة.

-"دعيه يعمل يا ابنتي" - قال السيد محمد -

-"صباح النورأبي، صباح النور أمي، أهلا خالد وخديجة ، كيف حالكم؟"

-"الحمد لله يابني، بوركت. كيف حال عائلتك؟"

-"الحمد لله ياأبي، كلهم بخير.. رغم أننا نسكن في نفس المدينة، لكن لانستطيع رؤية بعضنا البعض، أخاطبهم بالهاتف كل يوم."

-"هذه الغمامة السوداء تغطي سماء كل دول العالم، ستغادر كورونا قريبا وتتركنا بسلام."

-"إن شاء الله.. اعذروني، يجب أن أعمل الآن.. طاب يومكم."

-"مع السلامة يا بني، أعانك الله في عملك." - ودعه السيد محمد -

-"مع السلامة يا بني." - قالت السيدة مليكة - 

-"أعانك الله يا أحمد، أحدثك لاحقا." - قال خالد -

-"بالتوفيق أخي أحمد." - قالت خديجة.- 

-"أنا أيضا أترككم، حان وقت عملي، طاب يومكم. سعدت برؤيتكم." قال خالد

-"كيف حال جدي وجدتي؟ - سألت خولة والديها -

-"بخير.. البارحة أصرت جدتك على أن تدخل المطبخ وتحضر لنا (الرزيزة)*1...."

بينما كانت الأم تتحدث بدفء ومحبة عن والدتها والأكلات الشهية التي حضرتها.. انتقل اهتمام (خولة) إلى الأصوات الخارجية التي انبعثت من الغرفة المجاورة. سمعت (أحمد) يقول:

-"كيف حالك خالد؟ تبدو لي حزينا."

-"أنا الآن بخير.. مررت بفترة صعبة الأشهر التي مضت.. الحمد لله، الأحوال بدأت تتحسن.."

-"قلقت بشأنك! ما الخطب صديقي؟"

-"بسبب الإجراءات الصحية التي فُرضت، اضطر رب العمل إلى طرد نصف العمال.. ورغم أن اسمي لم يكن ضمن لائحة المطرودين إلا أنني لم أكن محظوظا ! أصبحنا نعمل الساعات الإضافية، بسبب نقص اليد العاملة.. وبعد ثلاثة أشهر من العمل الشاق وعدم الراحة، أصابني مرض الإرهاق (البورن آوت)، فاضطررت إلى أخذ عطلة مرضية...


ولما استأنفت عملي.. عادت ريما إلى عادتها القديمة.. رئيسي في العمل لم يتفهم الأمر.. كل شغله الشاغل هو الربح المادي..
أما صحة العمال فلاتعنيه.. لذا قدمت استقالتي.. وقررت أن أغامر وأشتري مطعم جارنا الذي أعلن إفلاسه.. ظننت أنه مشروع مربح.. لكني تفاجأت قبل يومين بالقرار الذي اتخذته الحكومة بخصوص إغلاق المقاهي والمطاعم !"

-"آه يا صديقي! عانيت ومازلت تعاني بسبب هذه الجائحة! قرروا إغلاق المطاعم، لكنهم سيقدمون مساعدة للشركات الصغرى والمتوسطة، أرسل طلبك إلى مصلحة الضرائب.. اعقلها وتوكل على الله."

-"مساعدة! تقصد 1.500 أورو .. أتعتقد أن هذا المبلغ يكفي لدفع المصاريف؟ ...لا تقلق يا صديقي، ستشرق الشمس بعد غروبها. وأنت كيف حالك؟"

-"أنا بخير ياصديقي، أعمل في المنزل منذ ظهور هذه الجائحة.. قريبا سأصدر كتابي الثالث "علم البرمجة للمبتدئين"."

-"هنيئا لك ياصديقي.. وماذا بخصوص التلقيح؟ ما رأيك؟"

-"الأسبوع القادم سآخذ أول جرعة، وبعد ستة أسابيع لدي موعد مع خدمة الصحة البلدية لأخذ الجرعة الثانية من التطعيم."

-"إذن أنت من مؤيدي التلقيح؟ لا أخفيك القول يا صديقي.. أنا لا أثق بهذا الذي صنعوه وأسموه تلقيحا.."

-"لماذا ياصديقي؟ لُقِّحْنا عندما كنا صغارا، لماذا نخشاه الآن؟"

-"لأن معظم العلماء أكدوا أن تلقي جرعتين من التلقيح لايحمي من الإصابة بفيروس كورونا، فلماذا المغامرة ياصديقي؟"

-"أنا أثق بمن صنع اللقاح.. كما أنه اجباري على ما أعتقد.. فمستقبلا سيصبح جواز التلقيح ضروريا للسفر ولدخول الإدارات العمومية والفنادق والمقاهي والمطاعم والمحلات التجارية والفضاءات العمومية المغلقة."

-"ما هذا الهراء! أي قانون هذا الذي يجبر المرء على فعل ما لايريد! إنها فوضى!"

-"بل هي قوانين تحمي الشعوب من تفشي هذا المرض الذي قتل الملايين من البشر ولازال يقتل المزيد. علينا أن نفكر بعقلانية يا صديقي.. إذا كنت مترددا، اسأل طبيبك الشخصي، فقد يفيدك بهذا الخصوص."

-"سأفكر في الموضوع ياأحمد. سررت بالحديث معك.. أتركك في رعاية الله وحفظه."

-"أبلغ سلامي لسهام والأولاد.. اعتنِ بنفسك. مع السلامة."

-"مع السلامة ياصديقي العزيز."

كانت خولة تنظر إلى هاتفها.. والدتها تولح بيديها وكأنها تروي حكاية شيقة، لكنها لم تسمع شيئا.. فأذناها كانتا منشغلتان بحديث أحمد وخالد.. ففضول الزوجة كان الأقوى.. فجأة سمعت أختها خديجة تقول:

-"كيف سيقيمون حفل الزفاف؟ ألم تتخذ الحكومة المغربية إجراءات صحية بخصوص التجمعات؟"

-"سيكون حفلا عائليا، أعتقد أن عدد الحضور لن يتجاوز الثلاثين."

-"ثلاثون يتواجدون في حجرة مساحتها ثلاثة أمتار.. وبدون كمامات طبعا.. سترقص كورونا حينها!! إنه الجنون بعينه!"

 -"من سيتزوج؟" سألت خولة أمها

-"ابنة عمك حنان ستتزوج جارنا توفيق."

-"جميل.. لكن لماذا يقيمان حفل زفاف في هذه الظروف؟ يكفي أن يعلنا خبر زواجهما بعد عقد القران."

-"والدتها أصرت على إقامة الحفل... إنها التقاليد يا ابنتي."

-"وهل سنذنب إذا اضطررنا لخرق التقاليد بسبب الجائحة؟"

-"لا يا بنيتي، لكن قناعات الناس تختلف.."

-"لاتذهبي إلى الحفل، أخشى عليك من العدوى."

-"لا تخافي عزيزتي.. فالله خير الحافظين."

رن هاتف خديجة، فقررت انهاء حديثها مع أهلها.. قالت:

-"مع السلامة، أبلغوا سلامي لجدي وجدتي."

-"إلى اللقاء أحبائي." قالت خولة لوالديها وأختها. وقبل أن تغلق الوتساب سمعت أمها وأبوها يقولان في وقت واحد:

-"حفظكم المولى عز وجل أحبائي، اعتنوا بأنفسكم."

بعد هذا الحوار الشيق مع عائلتها، أحست بطاقة إيجابية ورغبة في رسم لوحة فنية ربيعية. جلست في غرفتها التي تقضي فيها معظم وقتها: غرفة الهوايات.. هي مرسمها، والمكان الذي تخيط فيه ملابسها وملابس أحمد.. والمكتبة التي تقرأ فيها كتبها المفضلة.. 

حملت لوحةً طولها متر ونصف، وعرضها متران، ووضعتها على مثبت لوحات الرسم. نظرت إلى العلبة التي أهداها لها أحمد.. تساءلت "هل أستعمل هذه الألوان؟ أم أكتفي بالألوان التي سبق لي استعمالها؟" سبقتها يداها بأخذ الألوان من العلبة قبل أن تتخذ القرار.. نعم إنه الإصرار على استعمال ألوان هدية اليوم.. أخذت فرشاة مستديرة، وأخرى مبسطة وفرشاة السيف، وفرشاة الزاوية، وفرشاة كبيرة الحجم، وسكينا وقماشا. ووضعت في كوب القليل من زيت اللينسيد (Linseed Oil) وفي كوب آخر محلول تنظيف الفرش  (Turpentine). تفقدت أدوات رسمها، ثم بدأت بوضع لمساتها الأنثوية على اللوحة التي قررت أن تسميها (الدفء العائلي).



*1 الرزيزة: أو رزة القاضي هي حلوى تقليدية مغاربية منقوعة بالعسل مصنوعة من الدقيق الرطب لتتحول إلى خيوط رفيعة منسوجة بالزبدة، وكأنها خيوط كبة تشكل بشكل دائري على صورة رزة الصفراء التقليدية المعروفة في بعض المناطق المغربية والجزائرية.





Share To: