ليس من السهل على المرء أن يكتب عن أيقوناتٍ لامعة، فهي نموذجٌ شديد الخصوصية وضع المرأة العربية والأدب العربي على خارطة الأدب العالمي، فخلقت حالةً غير مسبوقة دفعت الكثير إلى التأثر بها ومحاكاتها وأحياناً استنساخها بشكلٍ كامل، وأصبحت جزءًا من حالة الحنين الجماعي الذي يشعر به أغلب الشعوب العربية للحظاتٍ جميلة،مضيئة،وحقيقية تذكرهم بالماضي..

غادة السمان..الإسم متعدد المواهب والمدارس في عالم الكتابة، ولدت في دمشق عام ١٩٤٢، لأبٍ جمع بين حبه للتراث والأدب العربي وانفتاحه على العلوم والثقافة الغربية، بينما توفيت والدتها في سن مبكرة، مما انعكس على شخصيتها وجعلها أكثر عمقاً وقوة ورقة وأكثر قدرةً على رؤية الأبعاد التي لا يراها الآخرون في قضاياهم وهمومهم اليومية، فتخرجت من الجامعة السورية عام ١٩٦٣، وحصلت على درجة الليسانس في الأدب الإنجليزي، ولاحقاً على شهادة الماجستير في مسرح اللامعقول من الجامعة الأمريكية في بيروت، وعملت كمراسلةٍ صحافية وكاتبة، وأصدرت مجموعتها القصصية الأولى "عيناك قدري" عام ١٩٦٢، وتنقلت بين العديد من المدن الأوروبية فزادت معرفتها وصقلت شخصيتها ووسعت مداركها وأغنت مخيلتها، خصوصاً عند كتابتها العديد من المقالات في الشأن الإجتماعي والتي كانت مقدمةً لأعمالٍ تعيد فيها صياغة شخصياتٍ واقعية من خلال أعمالٍ أدبية استثنائية، وهي التي تنوعت خارج المقالات بين الرواية والشعر والقصة القصيرة وأدب الرحلات، وكانت من أوائل الذين أدخلوا أدب المراسلات إلى الأدب العربي بشكله المباشر بعد أن فتحت صندوق أسرارها للحديث عن مراسلات خاصة بينها وبين الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، والذي تحول كتابها (رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان) والذي صدر عام ١٩٩٢ إلى إحدى الأيقونات الرومانسية، دون إغفال عاصفةٍ من الجدل حول مضمون الرسائل وفكرة الكتاب ولأنها كانت مع شخصيةٍ وازنة مثل غسان كنفاني، وتناول الناس للموضوع من زاوية القضية الفلسطينية، ولأنه كان متزوجاً في ذلك الحين، وتبعه ردٌ مطول من خلال كتاب (محاكمة حب) الذي ردت فيه على الاتهامات التي طالت هذا الكتاب، وتبعه لاحقاً بعد سنوات كتاب (رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان)، والذي يحكي أيضاً عن رسائل الشاعر اللبناني الكبير أنسي الحاج لها، وفي الحالتين تم نشر الكتب بعد وفاة الكُتاب والذي لقي أيضاً نصيبه من الإنتقادات التي وصلت إلى التجريح الشخصي..

تجربتها مع الشعر كانت مختلفة ومتفردة كما شخصيتها، فصنعت في عددٍ من الأعمال لحظاتٍ فارقة أخرجت الشعر من صورته الكلاسيكية لكنها حفظت له قيمته، فكانت تتنقل بين مفردات اللغة العربية بفصاحة ورشاقة وانسيابية ميزتها، حيث كانت تلفت نظر القارىء المتوسط وتثير فضوله ليصعد معها إلى عوالمٍ فسيحة دون استعراض ٍ متكلف لفصاحتها اللغوية والتي تخلق عادةً حاجزاً نفسياً مع القارىء، فتطوف به البلاد والمشاعر وتحلق في فضاء ٍ انساني جعلها تكسر الصورة النمطية للكتابة النسوية  التي وضعت العديد من الكاتبات في نطاق ٍ محدود وضيق، وتمردت عليها لتغرد خارج السرب ولتدخل المنافسة بمنطق إنسانة تملك العقل والثقافة والكفاءة بعيداً عن صورة المرأة المغلوب على أمرها، والتي تكون في وضعٍ دفاعي بإستمرار، فحاكت بذكاء ثوباً أدبياً صممته بحيث لا يرتديه سواها، وتنوعت في عرض مشاعر المرأة والرجل، لدرجة أنها كانت تغوص في أعماق الرجل وتتقمص شخصيته لتحكي بلسانه في بعض كتاباتها ببراعةٍ منقطعة النظير، بعدما اعتدنا على الكتاب والشعراء الذين كتبوا المرأة وعاشوها بتفاصيلها وأبعادها مثل نزار قباني وإحسان عبدالقدوس، فكتبت أعمالاً شعرية عديدة ومتنوعة..

فأخذت القراء معها في رحلاتها وشاركتهم أسفارها وترحالها في بلادٍ عديدة، وثقتها في عددٍ من الكتب التي تصنف ضمن أدب الرحلات، وأصدرت عدداً من المجموعات القصصية المميزة، كما كانت تصارح نفسها وقرائها بأن كل عملٍ فني وابداعي به نقص، وأن هذا النقص هو الدافع للبحث عن الأفضل، فأصدرت سلسلةً من الأعمال الأدبية الراقية بلغتها، والثرية بصورها الشعرية والأدبية، وأسمتها ب(الأعمال غير الكاملة) وتنوعت هذه المجموعة بين المقالات والنصوص الشعرية..

كما ولفتت أعمالها الأنظار باختلاف عناوينها وتفردها بشكلٍ يخدم العمل الأدبي بعيداً عن الإفتعال، بل ويضيف إلى جماليته ويحرك المخيلة ويدفعنا إلى التفكير، ولا ننسى اختياراتها للوحات الفنية التي كانت تزين أغلفة أعمالها حيث كانت تنتقيها بعناية من بين أسماء أكبر وأهم الرسامين العالميين، وكانت تميزها إلى جانب عددٍ من الأسماء الأدبية في العالم العربي، وتحولت إلى جزءٍ ثابت في أغلفة الأعمال الأدبية للأجيال التي تلتها، كما وكانت الأقوال المأثورة التي تستهل بها كتبها مختارةً بعناية لتجمع عدة ثقافات داخل عملٍ واحد، أما الإهداءات التي كانت في مقدمة كل عمل خاصةً جداً حيث لا تشبه أياً مما رأيناه وقرأناه من حيث الفرادة والتميز وثراء المخيلة، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر مقدمتها في روايتها الخالدة (كوابيس بيروت) والتي تشكل نقطةً محورية في مسيرتها الأدبية، وكانت من ضمن أهم الروايات العربية في القرن الماضي، والتي سأفرد لها مساحةً متواضعة للحديث عنها كونها تجمع عدة نقاط بارزة ومشتركة بين أعمالها..

هذا العمل المميز والخاص هو أحد أعمالها الذي كرس بيروت بشكلٍ خاص ولبنان بشكل عام كمحطة ثقافية، فكرية، ناهضة، نابضة، حرة سمحت لها وللعديد من الأسماء أن تنطلق منها وتنتقدها بكل محبة وشراسة وحرية، وأن تصفق لها وتحتفي بها وبأفكارها دون مهاجمتها أو رفض رأيها، وهي واحدةٌ من أربعة روايات سميت برباعية بيروت وتضم (بيروت ٧٥، كوابيس بيروت، ليلة المليار، سهرة تنكرية للموتى)، والتي شكلت كل واحدةٍ منها نقلةً نوعية على صعيد الكتابة والواقعية وعمق الشخصيات ونضج المعالجة وجرأة الطرح وحساسية القضايا التي تناولتها، في مزجٍ بين القضايا الشخصية والوطنية، وتأثير الحرب الأهلية اللبنانية واجتياح الإحتلال الإسرائيلي للبنان..(كوابيس بيروت) والتي كان اهداؤها خاصاً فكان كالتالي..

أهدي هذه الرواية إلى عمال المطبعة، الذين يصفون في هذه اللحظات حروفها، رغم زوبعة الصواريخ والقنابل وهم يعرفون..أن الكتاب لن يحمل أسماؤهم..
اليهم، هم الكادحون المجهولون دونما ضوضاء، كسواهم من الأبطال الحقيقيين، الذين يعيشون ويموتون بصمت، ويصنعون تاريخنا بصمود الأنبياء، اليهم..هم الذين يكتبون الكتب كلها، دون أن تحمل تواقيعهم، الى أصابعهم الشموع التي أوقدوها، من أجل أن يطلع الفجر، أهدي هذه السطور.. بتاريخ ٢/٩/١٩٧٦..

الرواية التي حملت الكثير من التفاصيل الواقعية والمرعبة والتي كتبت بسلاسة، دونما كلمات منمقة، بل بصراحة صادمة في بعض أجزائها، مقابل لحظات خيالية لها اسقاطات عميقة على الواقع المظلم والمتشابك، في تلك الفترة، والذي وضع غريزة التمسك بالحياة جنباً إلى جنب مع التمسك بذكريات الماضي والاستماتة في الدفاع عنها، ونقدها للواقع البيروتي الذي جعلها إحدى أيقوناته، وهذا أحد المزايا التي تنفرد بها مدينة بيروت، كمدينة تصارع من أجل الحياة وسط الجنون والموت واللا منطق، مروراً بقضايا المنطقة العربية والتي وصفتها بإقتدار، ووصولاً إلى نهايتها الخلابة بعد لحظاتٍ فاصلة بين الحياة والموت، تقرر فيها التخلي عن ماضيها الذي كادت تموت بسبب التمسك به..

هذه بيروت التي أحبتها وأصبحت جزءاً من هويتها ككاتبة، وحملتها في أعمالها واشتبكت معها، وظلت وفيةً لها، فصارت حاضرةً في معظم أعمالها، وتنبأت في رواية (سهرة تنكرية للموتى) عام ٢٠٠٣ بأن هدوئها هش وبأنها معرضةٌ للانفجار في أي لحظة، الى جانب تذكيرها الدائم بسوريا ودمشق مدينتها، واللاذقية مدينة والدتها التي توفيت وهي صغيرة والتي كتبت عنها في نصوصٍ كثيرة مثل (رسائل الحنين إلى الياسمين) و(الرواية المستحيلة،فسيفساء دمشق) ورواية (يا دمشق وداعاً)، كما تناولت القضية الفلسطينية في أكثر من ١٣ عملاً من أعمالها، وشملت بكتاباتها الدول العربية فكتبت عن مصر والعراق واليمن والجزائر إلى جانب الكثير من الدول..

فكانت الأهم عربياً لأسبابٍ عديدة أذكرها بإختصار وهي..

أولاً..تنوع اهتماماتها وكتاباتها في المقالات والشعر والروايات وأدب الرحلات والمراسلات والقصة القصيرة وتقديم أنماط جديدة ومختلفة، فلم تحصر نفسها في إطار أدبي معين ونجحت فيهم جميعاً بشهادة أهم الأدباء..

ثانياً..أعمالها لم تكن محلية تتحدث عن وطنها فقط بل كانت تشمل الدول العربية والعديد من دول العالم، فلم تكن متقوقعة أو متعصبة فقط لسوريا أو تحصر اهتمامها بشأنها المحلي كالعديد من الأدباء والشعراء الذين لا يهتمون بالإطلاع على مايحدث خارج حدود وطنهم..

ثالثاً..كانت واقعية جدا فلم تجمل التفاصيل السلبية لخلق صورة وهمية، ولم تكن أسيرة النمط الواحد أو فئة أو طبقة أو جنس أو دين، ولم تكن تعتمد على الجنس والإثارة لتسويق أعمالها فكان ذكر هذه التفاصيل لضرورة ورمزية أدبية..

رابعاً..أن كل الشهرة التي حققتها كانت من خلال الكتابة فلم تتحول أعمالها إلى أفلام سينمائية أو مسلسلات، مما يجعل نجاحها خالصاً لأن الجميع يعلم قوة السينما واسهامها في نشر أكبر الأسماء الذين تم تسليط الضوء على أعمالهم بعد نقلها إلى الشاشات، وكان الفضل في نجاح الكثير منها يعود إلى المعالجة الأدبية والتي حولت بعض النصوص من أعمال روائية عادية وغير ملفتة إلى أيقونات سينمائية..

خامساً..وهي نقطة قد يتفق معها البعض أو يختلف وهي أسلوب الكتابة الجذاب والمشوق والقدرة على المحافظة على إيقاع النص أياً كان نوعه دون ملل، بلغة أنيقة، راقية، تمد يدها للقارىء البسيط أو المتوسط فترتقي به دون أن تشعره بالفوقية والتعالي من خلال مفرداتٍ معقدة وخاوية لنصوص عادية وأحياناً ضعيفة، لكنها كانت تستمر بسبب إضفاء الكثير من المثقفين والمتلقين هالة القدسية على أسماءٍ بعينها فلا تقبل توجيه النقد المشروع لها وتعامل بعض الأسماء وكتاباتها وكأنها آلهة لا تمس..

اليوم تقيم غادة السمان في باريس مفضلةً الابتعاد لتعيش حياتها بهدوء، خاصةً بعد الأوضاع غير المستقرة في الكثير من الدول العربية، مع تغير طبيعة مجتمعاتنا بكل أسف، وتقوم بنشر بعض الكتابات والآراء من وقت لآخر، لكن مسيرتها حافلة وملهمة ومميزة وتستحق أن نتوقف عندها بكل احترام، كإسمٍ مهم وبارز له بصمة واضحة في عالم الأدب والثقافة العربية..

خالد جهاد..





Share To: