المقدمة
إن من أهم أسباب نجاح القصيدة هو التركيز على المقومات الأساسية للقصيدة ناهيك عن صدق الشعور والتحليق في عالم بعيد عن التكلف والضبابية، وأضف الى ذلك تمكن الشاعر من أدواته لأن التسلح بالأدوات من لغةٍ وعروض وصرف وبيان وبديع والمامٍ بالتاريخ الأدبي العالمي وليس العربي فحسب، كل ذلك يجعل من المفردة طوعًا ومادًة خصبة للإبداع .. لأن التسلح الثقافي المتنوع يثري الإنتاج وهنا يظهر التفاوت والتألق بين الشعراء .
ولا بدَّ أن يلتفت الشعراء المعاصرون إلى مواكبة العصر وما يجري فيه من أحداث ومجريات ووقائع ذات صلة بالمجتمع من خلال القصيدة المركزة المؤثرة وفي شتى مجالات الحياة لأن الشعر فنٌ مختلف عن فنون الأدب الأخرى كونه يأتينا بالجديد ويحاكي الوجدان باختزالٍ شديد فقد يختزل الشاعر حكاية أمة ببيت واحد أو بيتين وقد يصنع الحكمة ببيتٍ واحد وقد يرسم خارطة الطريق ببعض كلماتٍ وبهذا يصبح ويمسي أشد خطرا من غيره لذا يتوجب على الشاعر أن يكون لسان حال الآخرين في أغلب مفاصل الحياة بكافة مجالاتها .
لقد وقفت على ماكتب الشاعر علي النصراوي في مجموعته الشعرية ( إيقاع الروح ) بتمعنٍ وبدقة فوجدتُ قوة السبك، وتراص اللفظ والمعنى، في قصائده العمودية التي أثبت فيها هُوية الشعر العربي الأصيل وبقوة في زمن بدأ كلّ من يكتب من دون قوانين معتبرًا نفسه شاعرا ومسميًا ما يكتب شعرا بحجة الحداثة متناسيا أن الشعر مختلف عن النثر ما دارت الأرض وبالتالي لايصح إلا الصحيح .
تنوعت الأغراض الشعرية عند النصراوي من مديح وهجاء ورثاء وفخر وتعددت بحورها الشعرية كالطويل والوافر والكامل والبسيط والمتقارب والرجز وكان للوافر الحظ الأوفر في مجموعته الشعرية وقد مدح ورثى الرسول محمدا وآل بيته صلى الله عليهم وسلم بكثرة وكتب للوطن معارضا الظلم والطغيان ورثى البعض من الأصدقاء وهناك قصائد بلغت السبعين بيتا وهي دلالة على نفس شعري عميق .
كان للصورة الشعرية الدور الفاعل في قصائده مع الحفاظ على الوحدة الموضوعية وزج البلاغيات المتعددة كالتقديم والتأخير والمحسنات البديعية  التي منحت القصائد جمالا .
قال في قصيدة (ما أقساكَ يا فجرُ )وهو يرثي الإمام عليا عليه السلام بذكرى استشهاده 
وابلج الفجرُ ما أقساك يافجرُ
فقد أبحت دماءً عمرها الدهرُ 
فاستصرختكَ رياحُ الغدر سادرةً 
لما أناخ على محرابكِ الغدرُ
وأيقظ السيفُ في الظلماء نازلةً 
فلملم الفجرُ ذيلا ماله عذرُ
قمة الوصف مع رسم صورة شعرية رائعة لحدث إسلامي كبير وهو استسهاد الإمام علي عليه السلام ، موظفا الزمان والمكان للحدث المفجع بطريقة رائعة .
وقال في قصيدة (عيدٌ بلا عيد )
تعثر العيدُ في أشلاء من قتلوا
وجامحُ الموتُ من أقداحهم ثملُ
كأننا وسرايا الموت تتبعنا 
على جناحٍ به الأرواح ترتحلُ 
في كل فصلٍ لنا من طفها صورٌ 
كأنما لقضاء الطف نمتثلُ 
فخاض فينا ولم يترك لساقيةٍ 
لحنا طروبا به الأطفال تبتهلُ
ما مرّ عيدٌ بها من غير نازلةٍ
في كل عيدٍ لهم حشرٌ ومقتتلُ
تجسيد لواقع مؤلم وتصوير معاناةٍ عاشها الشعب بألمٍ أفقد الجميع الفرح والسرور مستعينا بمناسبة العيد التي تُعد من أسعد المناسبات التي تمر على الشعوب العربية الإسلامية مجسدا غياب فرحة الأطفال في أيام العيد مختزلا الوجع باللفظ السلسل والمعنى الواضح .
وقال في قصيدة (قطفتُ ثمارها ) وهو يكتب في مدينة الحلة الفيحاء 
فإني وِترُها من ألف عامٍ 
ونصلي من عكاظَ بلا قرينِ
وإني سيدُ السادات فيها
وختمٌ من عكاظَ على جبيني
ويشهد في القريض سنانُ حرفي
بأني فحلُها في كلّ حين
ويشهد في المكارم لي شمالي 
ويشهد في الخفا عني يميني
فكم غرقت مراكبهم بجرفي
ومنْ يبغِ العلا يركبْ سفيني
لغة الأنا والفخر وردت في هذه القصيدة وهو يفتخر بنفسه وبلاغته وتاريخه العريق ومدينته بابل العريقة الممتدة حضاريا إلى آلاف السنين ، فإذا ما تمعنت فيما كتب ستجد لغة الأنا وهو حقٌ مشروع لا ضير فيه .
قال في قصيدة ( عرسُ الكواكب )
وتركت روحي في رياضكِ لاهيةْ 
وقطاف أشجاري لعينك دانيةْ 
وكتبت آهاتي إليك قوافيا 
من غير آهكِ لا تطاوع قافيةْ 
فعشقتُ عيني في هواك لأنها
ضمتك طيفاً لا يغيبُ لثانيةْ 
وبحثت عنّي في مرايا صفحتي
فوجدتُني اللحن الطروبَ بساقيةْ
فأنا القريضُ وكلُّ لحنٍ في فمي
عرسُ الكواكب في الليالي الشاتيةْ
كانت وجدانيات النصراوي نقيةً وقد تسلح بها وظهر أثرها الواضح في قصائده فلقد ظهر جليا صدق الشعور من دون أي عتمةٍ لأن الانفتاح الشعري كان مُشعا  وقصائده لا تخلو من الانزياح الجميل الباعث للتأويل في مواضع عدة ، كما أن التشكيل الشعري كان متوازنا لأنه امتلك القوة التخيلية التي تأتينا بالإبداع مستعينا بالطبيعة وبالشواهد ومشكلا من خلالها صورا شعرية جميلة إستطاع توظيفها بطريقة محكمة ظهرت جليا في مجموعته الشعرية .
تمتع النصراوي بمزاج شعري مُطعم بالحقيقة واستطاع أن يمزج بعقلانية بين الخيال والواقع وكان محافظا على المفردة وما تؤدي من معنىً وبهذا كان للعقل الدور الكبير في قصائده وكان للعاطفة الأثر الملموس ولكن وفق ضوابط متزنة.
لقد ظهرت التجليات الروحية في هذه المجموعة بأبهى صورها فلقد جسد لنا حروفه من نبضات قلبه حتى تمكنت الأنا الشاعرة من إطلاق فضائها لتصل الى خلاصة الأشياء التي أرادت الوصول إليها مخلفة التأويل للمتلقي الحاذق وحتى المتلقي البسيط وهذه محمدة تُحسب للشاعر لأن الشاعر حينما يكتب لا يضع أمامه لمن يكتب بل يؤمن أن ما يكتبه هو الصدق.
إنّ القصائد التي كُتبت كانت من وحي الحياة وصلبها فمرة نجده مؤرخا ومرة ساردا وقاصا للأحداث والمجريات ومرة متغزلا عفيفا ومرة مدافعا عن الجمال ومظهرا له بين طيات الحروف وبهذا يكون مجسدا حقيقة الشعر لأن الشعر ينتقل ما بين العالم والانسان بطريقة مشحونة يتخللها الفن والإبداع والابتكار وبهذا يتجلى واضحا ذلك المزاج الشعري وكأنه يريد أن يتصالح مع العالم الذي يدور حوله لأن الشعر بحد ذاته طريقة لا إرادية هدفها الوصول الى أرقى درجات الحقيقة .
لقد استمتعتُ بما جاءنا به النصراوي من تجربة ذات أفق جمالي لأنك ما أن تقرأ قصيدة من قصائده ستجد نفسك منغمسا فيها محلقا مع معانيها حتى وكأنك في نإتصال بالقصيدة ، وهذا التأثير بالمتلقي لهو الشعر بعينه وذلك أمر عظيم يحررنا من سؤال مهم إلا وهو ما جدوى الشعر وما مدى قدرة القصيدة في حضارتنا من حيث التغيير والتطوير ؟
تمتع النصراوي في مجموعته الشعرية بعدة مقومات منها جمال الأسلوب وحبكة البناء وتصاعد الأداء من دون ركاكة فلم تخلُ قصائده من الدهشة والضربات القوية مع الزج بأفعال ذات دلالات فضائية ممتدة لكي تكون القصيدة لديه مؤثرة ، أي قصيدة شاملة في تشكيلها المعماري الشعري وقد ظهر لنا جليا نضج التجربة الشعرية لديه وجمالية التعبير الشعري والانفتاح الفني المؤدي إلى الغرض المنشود من كتابة القصيدة المؤثرة لأن تقييم الشاعر لا يقتصر على أن تكون القصيدة خطابا موزونا ومقفىً أكثر منها شعرا حقيقيا مؤثرا.
فعلا كان لإيقاع الروح لحنٌ جميل مع رحلة النصراوي الممتعة لذا أبارك للنصراوي منجزه
وإلى مزيد من التألق حامدا الله حمد الشاكرين
ومصليا على نبيه المختار الأمين وعلى آله وصحبه المنتجبين .







Share To: