إستدار ملبيا نداء الحياة السري الغامض، بعد أن قرأ الفاتحة علي أرواح من رحلوا، رحلة روحية طالما يشتاق إليها كلما أرهقته متطلبات الوجود وشروطه الصارمة القاسية !. في عينيه نظرة تحد جديدة، وكأنه تماثل ، للتو، للشفاء، بعد معاناة طويلة مع المرض، أو كأنه قد إستعد ، نهائياً، لدوره الجديد بعد أن حفظه عن ظهر قلب، ودرس أبعاده، وعرف مفاتيحه ولمس أسراره . فتح بوابة المدفن الحديدية وخرج مستقبلاً الشارع الأسفلتي الساخن بضوضاء سياراته التي لا تكف ابدأ عن المجيء . نظر إلى أعلي مسترقاً نظرة إلى قرص الشمس المختبئ خلف سحابة بيضاء ساكنة. حدج السماء بنظرة عامة ومستغربة ،  فوجدها صافية إلا من بعض السحب، كان وقع المفاجأة محيراً وصادماً إلي حد ما،يعرف في أعماقه أن الجميع راحل لا محالة، لكن يحيره دائماً الشروق والغروب، إستمراريتهما علي نحو متكرر أزلي ودائم !، سطوع الشمس وما تشعه من ضوء ودفء ورهبة ، كما يضنيه ويعذبه ذلك الصفاء الغير معني والغير عابئ بوجود أي شيء أو أي أحد، وكأنه خلق أولاً لنفسه وبنفسه! . فكر في الذهاب للإستحمام في البحر،والتبرد بمياهه الرطبة  حتي ينسي ، إلا أنه لم يجد بداخله القوة الكافية لفعل ذلك. أوقف تاكسي مفكرا في العودة، وفي طريق العودة، عبرت رأسه فكرة:ماذا لو مررت بالبيت القديم، ودخلت ، بعد إستئذان المالك الجديد طبعاً. كم عام مرت على البيع المبارك!؟! سبعة، عشرة أعوام. ثم رأي نفسه وهو يتجول في غرف البيت، دخل المطبخ والحمام ، فتح غرفته القديمة التي طالما نام وسهر وذاكر ومرض فيها، جال في الصالة الكبيرة، أي شوق عظيم ذاك ،  وأي وحشة كاسرة تلك؟ . ثم وجد نفسه واقفاً في الفرانده مستقبلاً نسمتها الندية المعتادة، إلا أن صورة الأسياخ الحديدية الموضوعة علي السور أزعجته بعد أن حول المالك الجديد البيت إلى مخزن. شعر بأسف شديد ويأس فعدل من فكرته، إلا أنه لم يستطع أن يمنع نفسه من إلقاء نظرة إستعطاف وشفقة أخيرة علي البيت من نافذة التاكسي ، حتي لو كان ذلك عبر  القضبان ، هل تحول البيت إلى سجن؟ حدث نفسه : المالكين الجدد لا يأبهون بتاريخ أو ذكريات المالك القديم ، يهتمون فقط بتاريخهم هم، بذكرياتهم هم منذ لحظة كتابة العقد الجديد. لكن ألم نبع - نحن - البيت بإرادتنا؟ ، كان الخلاف حول مسألة التوقيت فقط! لا البيع. الآن، الجميع يتحسر، من كان متحمسا، ومن كان يطالب بالتريث وإعمال العقل. أين أنت، الآن، يا أمي؟ لقد تحققت نبؤتك.! 
كانت تقول دائماً بفخر وسعادة :حصل أباكم علي ثمن هذه الأرض من حر ماله، وبني عليه هذا البيت بالمثابرة والحب ، وظل يحلم أن يبني لكل واحد منكم بيته الخاص حتى مات، لكنه لم يكن يكف يوماً عن الأحلام . حافظوا علي هذا البيت، وسيحافظ عليكم، هذا البيت عرضكم وكرامتكم . ثم بعد سنوات اليأس والمرض :سأموت ثم تبيعون البيت وتتفرقون.! 
عبر التاكسي ميدان الجلاء الذي طالته أيادي التحديث والبناء، البنزينه على اليمين، من غرفه ذات نافذة خشبية وحيدة في أيام الشتاء القارص، يعمل بها عامل واحد  وطرمبه واحده، إلي مبني متكامل حديث ومعدات جديدة وعمال يرتدون زيا موحدا، والدكاكين اليتيمة حول الميدان هدمت وأقيمت مكانها أبراج سكنية، و مكاتب البنك الوطني المتواضعة إستحالت مبني غاية في الرقي والأناقة ، ومن حوله ماكينات الصرف الآلي . الكارته وعربات الكارو حلت محلهما التاكسي الدايو وعربات النصف نقل الياباني . مطروح الأمس ليست مطروح اليوم. 
شعر بضيق وألم خفي، كمن ألقي به رغماً عنه في بحر الحياة اليومية التقليدية المعتادة ، فغدا سوف يستيقظ مبكراً كعادته، ولسوف يحسوا قهوته علي عجل حتي لا يفوته ميعاد البصمة الإلكترونية، ولسوف يعود في ميعاد الغداء، ثم ليلهو قليلاً مع أولاده وفرحته الوحيدة الباقية ،لا جديد يذكر تحت الشمس ! . أي إرادة تلك التي خطت له هذا الخط المتعرج غير المستقيم لحياته ، وعليه يجب أن يسير رغماً عنه ، إرادة من تلك التي وقعت خط السير ذاك؟ ، وحددت أيضاً الوجهة، وربما، خفية، وسيلة المواصلات،والطرق والممرات والجسور التي سوف يعبرها ، وربما أيضاً أوقات الحزن وساعات الضحك، وبدون  شك الوجهة وجهتها هى فقط!،تذكرة ذهاب فقط ولكن بدون عودة! . 
هل كانت الإرادة إرادتي أو إرادة الآخرون؟ بالتأكيد لم يكن إختياري، فلو خيرت مابقيت كل هذه الفترة هنا. كان الأجدر بي ان أكون، هناك، وسط النجوم،في القاهرة، مدينة النور والظلام، عاصمة الألق والأرق. مصر بكل تناقضاتها وأضدادها، بشوارعها وحواريها. لكن قلة الخيارات والشياطين الملاعين !. 
توصل ليقين داخلي عميق ورزين أنه عاش حياته كلها محاربا إرادة أخرى متسلطة غاشمة تحاول دائماً فرض إرادتها عليه، بما لا يحب أو يرضى، وإنه ربما يكون قد نجح فقط في منع هذه الإرادة من القضاء عليه وإبادته ، ولهذا كان يعتقد دوماً إنه، ربما، عاش مصارعا هذه الإرادة أو تلك من أجل  قيمة الحياة في حد ذاتها، ومن أجل أيضاً كينونته التي ترفض تلك الإملاءت القادمة من الإرادات الأعلى منه ، لكنه، مع ذلك، لم يحقق كلياً ما كان يحلم به ويصبو إليه، إلا أنه وفي أوقات كثيرة كان يشعر بذاته، و برغبته المتزايدة فى التصدى والصمود، ولهذا لذته ومذاقه الخاص رغم كل شيء .! 
دفع بالعشرين جنيها إلي السائق  ،  الذي حدجه بنظرة مستخفة وهازئة قائلاً :خلي يا أستاذ!






Share To: