سؤال متأخر قليلًا... 

في أواخر شهر يوليو... فصل الصّيف 
.الشـاطئ.. خلية نحل،  حيثما توجه بصرك تلتقي بوجه باسمٍ فرح،  لفحَته أشعة الشمس بلوْنها البرونزي الجميل.. 
السيارات لا تنقطع وهي تسير في سلسلة طويلة لا نهاية لها.. 
يصُب كل هنيهة، المـزيـد من البشر ومن كل حدبٍ و صوب.. 
الـبحر، الشـاطئ، الـمظلات الشمسية،  فوضى عارمة لموسيقى المحلات،  الكثير من الأجساد البشرية تفُوح منها روائح الأمواج الصيفية الممتعة...
.كان يجلس وحيداً في أحد المركّبات الذي يستشرف البحر على مقعد مريح من خشب البامبو ...  يسرّح نظره في الزرقة المترامية أمامه،  زرقة السماء و زرقة البحر  معاً،  ثم يعود الى كومة الصُحف والمجلات التي تملأ سطح الطاولة بجواره وهو يستمتع بالوقت بها.. 
ـ هل تسمح بالكرسي...  من فضلك!! 
ًفوجئ بالصوت على حين غفلة،  سحب، ذراعه من فوق ظهر الكرسي الشاغر جانبه وكأنها صُعقت بتيّار كهربائى،  وقد، أدرك مقدار الخطأ الذي إقترفه..  إذ يشغل بمفرده مقعدين وسط هذا، الزحام الرهيب.. 
ـ ردّ قائلًا قبل أن يرفع رأسه عن الصحيفة التي يتناولها؛  تفضلي يا سيدة....  آسف..  فعلاً أنا آسف!! 
ثم رفع رأسه بحركة لا شعورية صوب صاحبة الصوت كانت قد، بدأت تسحب الكرسي في هدوء بينما شفتاها تتمتمان ببعض كلمات الشكر و الإعتذار المؤلوفة...
توقفت فجأة ، وجعلت تحدّق في وجهه ثم همست في دهشة؛ كـمـال....الاستاذ كـمـال!!!؟ 
قام من مقعده،  وكانت عيناها لا تزالان تطوفان بوجهه، بشعره،  بملابسه، وبالمجلات فوق الطاولة في فرحة بادية لا تخفى رغم تحفظها ..
إضطرب في أول الأمر إلا أنه استردّ ذاته عندما غرقت عيناه في عينيها التي يذوب فيهما لون العسل المصفى ... تذكر هاتين العينين،  وتذكر لونهما الذي لم يصادف أبدًا لون مثله خلال رحلة عمره الطويلة...  هتف وهو يحاول ان يتمالك أعصابه؛  حـنـان...!! 
هزّت رأسها على شكل نعم حـنـان...
مدّ يده واحتضن يدها المستسلمة و هو يطوف بدوره بعينيه في عينيها... في قسمات وجهها...  في خصلات شعرها...  وفي لباسها المُتناسق المُحتشم ثم تمتم قائلًا؛  أكثر من ثلاثين سنة!! 
ـ قالت وهي تهز ّ رأسها كأنها لا تصدق؛  فعلاً...  ثلاثون سنة،  عُمر بأكمله.. 
ـ تفضلي... 
ـ شكرًا لك...  معي آيـه ابنتي،  ذهبت للشاطئ لن تلبث و تعود. 
و همّت بسحب الكرسي،  نزع يدها برفق من الكرسي وحمله الى حيث تريد الجلوس وعاد الى مكانه.. 
ـ أكثر من ثلاثين سنة يا كـمـال....  منذ آخر مرة رأيتها،  لطالما راودتك نفسك وانت تُغرق عينيك في عينيها العسليتين، نعم...  إنها حواء التي قُدّر لها ان تضع القيد في يديك..  أن تفقد من أجلها حريتك التي تقدّسها!!
بحكم ان الضروف كانت أقوى منكما أنذاك، وغادرت البلدة التي إلتقيت فيها بحـنـان الصغيرة.. 
في أعماق نفسك شعور مرير بالهزيمة لأنك كنت أضعف من ان تخطو خطوة واحدة،  أو تتفوّه بكلمة...  مجرد كلمة في سبيل تحقيق حلمك!! 
و علمت فيما بعد انها تزوجت من أحد أقربائها،  ثم انقطعت عنك اخبارها، رغم عينيها كانتا تُلوحان لك فجأة بين الآونة و الأخرى دون سبب!
كنت تُحس لذلك دفئاً في، كيانك، ويغمرك شعور بالبهجة والسعادة والندم والحصرة مع بعض.. 
ـ أفاق كـمـال من خواطره وذكرياته وهو غير مُصدق أن حـنـان هنا على بعد، خطوات منه.. 
حانت منه إلتفاته الى حيث تجلس،  كانت هي الأخرى لاتزال منفردة مع نفسها، ترسل نظرها بعيدًا صوب البحر والزوارق المترامية فيه...  أدارت عُنقها ناحيته و إلتقت العيون حتى أهدته حـنـان بسمة هادئة فاترة،  شاحبة... 
ألفى نفسه هو كذلك يقوم من مقعده واتجه إليها قائلًا؛ 
المعذرة...  هل هناك من تنتظرين غير  آيـه ...!!؟ 
ركّزت عينيها في عينيه بحياء مُختلق وقالت كأنها تحاول، ان تتهرّب من الإجابة؛  آيـه فقط! عندما تكون مع صديقاتها تنسى نفسها وتنساني أيضاً...  تصوّر!!؟ 
فمابال إذا كانت على الشاطئ،  وضحكت ضحكة خافته...
ـ سأل هو؛  و والدها..؟  زوجك أقصد! 
خفضت رأسها و غمغمت؛  ليس هناك أحد الآن.. 
علِم كـمـال ان والد آيـه ٱستشهد في سقوط الطائرة العسكرية،   قال وفي صوته نبرة رجاء؛  هل تسمحين ان أملأ المقعد الشاغر ريثما تعود آيـه! 
رمقته بعينين حذرتين حائرتين في حرج ولم تجبه... فجلس هو وتنهدت في ارتياح..
وعرفت هي انه لم يُوفق في زواجه وان إبنه هاجر الى كـنـدا ليبدأ حياة بعيداً عن مشاكل والديه و وطنه..
وان ابنته تعيش مع زوجها و قلّما تزوره او يزورها...  قالت في حصرة أعتقد انك لا تستحق كل هذه القسوة!
ـ ردّ قائلًا؛  هذا قدري.... نعم هو قدري وأنا صاحبه. 
ثم أردف قائلًا؛ هل تصدقيني ان قلت انك لم تغيبي عن ذاكرتي كل هذه السنين..!!
همست حـنـان في خوف وتردد؛ وانت أيضاً... كُنت أقرأ إسمك في الصحف واسمعه في الملتقيات والإذاعة في بعض الأحيان... فأتذكر كل شيئ !
قال وهو يعود بذاكرته الى أيام بعيدة مضت وصوته يتهدّج بالندم؛ كم عقدت العزم على ان اوجّه إليكِ سؤالاً صغيراً في ذلك الوقت إلا أنني كنت أمسك لساني في آخر لحظة، وكان يمنعني أمران.... 
ضحكت وعيناها تغوصان في عينيه وقالت وكأنها تستجوبه؛ الأمر الأول.. 
ـ خشيتي ان افقد حُريتي وانا في عزّ شبابي ...خرافة من خرافات الشباب! 
والأمر الثاني.. 
ـ خوفي أن افقد غروري عندما أسمع كلمة "لا"... كان لايزال أمامي شوط طويل من الصبر والحرمان حتى أستطيع أن ٱكوّن نفسي و اتحمّل المسؤولية..
ـ سألته وكأنها تداعبه؛ وهل تغيّر، شيء الآن ؟!!
ـ كل شيء تغيّر ... لا شيء يبقى على ماكان عليه، فدوام الحال من المحال
ـ قالت باسمة؛ حتى حريتك!!؟ 
ـ حرية ... ليس هناك شيء مطلق في الحياة، وحتى الحرية انها تغدو في بعض الأحيان فراغاً رهيباً يضيع الإنسان في مداده اللانهائي 
ـ و غرورك..؟ 
أجاب؛ حلّ محله شعور بالثقة والرضا بالمصير و القدر.. 
نظرت في عينيه برهة ثم هزت رأسها وقالت؛ مازلت كما عرفتك فيلسوفاً... يحب المرء أن يسمع كلامك، ثم استطردت نظرها الى رأسه قائلة؛ قد زاد الشعر الأبيض كلامك نكهةً و عُمقاً ... تردد قليلًا ثم قال؛ هل تسمحين لي ان أطرح عليك سؤال يا حـنـان!!
ـ قالت في شيء من الأسى كأنها تقرأ مايجول في نفسه... الآن؟ ألا تعتقد أنه سؤال متأخر قليلًا!!؟ 
ـ هتف وكانه يخشى ان يُفلت منه آخر امل له في الحياة؛ لا... حتى لوكان قد تأخر فمازال فذ العمر بقية.. 
ـ قالت وهي تضعه أمام أمر الواقع؛ رغم هذه الشُعيرات البيضاء التي تسللت الى شعر رأسي؟!! 
قاطعها في صدق و حرارة؛ من الأحسن ان لا تحاولي إخفائها، لأن الحب لا يعترف بالشعر الأبيض يـاحـنـان لانه اصلاً لا يراه!! 
خفضت رأسها ومسحت دمعةً طفرت من عينيها في هدوء وجلسا الإثنين والصمت ثالثهما... 
ثم أفاقت بهد هنيهة حينما أقبلت آيـه تسرع في خطواتها...






Share To: