تعرف قيمة المرء بالأثر الذي يتركه في نفوس الآخرين، وبالإرث الذي يتحدث عنه بعد غيابه إما برحيلٍ وإما بإحتجابٍ عن الأنظار، وفي زمننا الحالي تكثر استعادة أسماء ٍمؤثرة وملهمة نظراً لما نعيشه على مختلف الأصعدة، ولكننا أيضاً قد نغفل أسماءاً عظيمة أو نتذكرها بعد أن يتحدث عنها الإعلام الغربي فتتحول إلى موجةٍ رائجة من جديد، ومن باب الإنصاف يتوجب علينا أن نمسح الغبار عن كتبنا وتاريخنا وننظر في المرآة لنسأل لماذا وصلنا إلى هنا؟ ونعيد الإعتبار إلى أيقوناتنا التي لا زالت على قيد الحياة، أو حتى تلك التي فارقتنا لكن سيرتها باقيةٌ بيننا..
ومن قلب التاريخ تطل ملكةٌ لم يجد الزمان بمثلها، فهي كأسطورةٍ يراها كلٌ بعينه، فيلبسها رداءاً من الجمال والشاعرية والقوة والكبرياء والحزم والدهاء والحنكة، لتتحول مصدراً للإلهام للفنانين والمؤرخين على اختلاف فئاتهم ويجمعهم افتتانهم بشخصيتها الفريدة كأحد عظماء التاريخ.. زنوبيا..ملكة تدمر..
ولا شك أنها من الشخصيات الجدلية والتي رأتها كل فئة في الشرق أو الغرب بما يناسب التيار الفكري الذي تنتسب إليه، ما بين قومي سواءاً كان عربياً أو سورياً، أو متبنياً لرواياتٍ غربية تحاول إضفاء طابع ٍ معين عنها يسلخها من محيطها وأحياناً يبخسها حقها التاريخي الذي تستحقه، أو يحاول نسبها إلى رواياتٍ تاريخية مغلوطة بغية تسييسها بشكل ٍ واضح وملحوظ والإستعانة بنصوصٍ دينية وفلسفات تابعة لها في محاولة لتدعيم هذه الروايات المزيفة..
لكن هذه الملكة الساطعة كالشمس كان اسمها الأصلي (بنت زباي) بالآرامية، وعرفها العرب بإسم (الزباء)، واختلف كثيراً على أصلها بين من نسبها إلى أصلٍ عربي أو بطلمي مقدوني أو روماني أو حتى يوناني، لكن زنوبيا سورية من تدمر وتنحدر من قبيلة (السميدع) العربية ذات الجذور التاريخية المتشعبة، واسمها الزباء بنت عمرو بن الظرب بن حسان ابن أذينة بن السميدع بن هوبر العمليقي، ووالدتها إغريقية من سلالة كليوبترا ملكة مصر، وهي الملكة التي كانت بمثابة القدوة والملهمة لها والتي حاولت أن تمشي على خطاها كما وأنها درست في مصر، وكانت عالية الثقافة، مولعةً بالآداب والتاريخ، ومحبةً للإطلاع والمعرفة وتقرب الفلاسفة والمفكرين والمثقفين منها، وبكل تأكيد كانت زنوبيا تملك شخصية ً استثنائية عابرة للثقافات وتتحدث عدداً من اللغات وأولها اللغة التدمرية وهي لغة آرامية،كما كانت تتحدث اليونانية والمصرية القديمة، وتتمتع بالصفات التي تمكنها من تبوء الحكم كقائدٍة محنكة وليس فقط كزوجة ٍ لملك تدمر (أذينة) والذي كان يسمى ب(حاكم المشرق)، والذي كان ملكه بمثابة مكافئةٍ له على ولائه لروما ونتيجةً لهزيمة الإمبراطورية الرومانية أمام الفرس أيضاً، فقد شاركته في وضع سياسة حكمه خلال حياته، وكانت تشهد معه مجالس القوم وجلسات مجلس الشيوخ..
وهذه الشخصية لم تأتي من فراغ، فقد نشأت بعيداً عن عائلتها بعد أن حاول والدها التخلص منها بعد العديد من الأبناء، فأكسبها ذلك جلداً وتحملاً وعزماً لا يلين ومكنها من تعلم الصيد والرماية، وتعاملت مع مختلف صعوبات الحياة التي جعلت منها (الملكة المحاربة) كونها قادت حروبا ً لم يقدر الرجال على خوضها، وزاد اغتيال زوجها ملك تدمر (أذينة) مع ابنه من زواجه الأول على يد ابن أخيه (موينيوس) عام ٢٦٧ م من عزيمتها وسعيها لتحويل تدمر إلى إمبراطوريةٍ لا مثيل لها، فأصبحت تهدد روما بعد أن كانت حليفاً لها في الشرق وفاصلاً بين الدولتين الرومانية والفارسية المتحاربتين، خاصة ً أن روما هي من أوعز لإبن أخيه كي يغتال عمه مقابل تسلم الحكم بعد أن شعرت بمحاولته الانفصال عنها والتمرد عليها، وبدافعٍ من غريزة الأمومة لدى زنوبيا تعهدت بأن تترك لإبنها (وهب اللات) الذي تسلمت الحكم بالنيابة عنه كونه طفلاً إرثا ً ومملكةً تدعو للفخر مع أخيه (حيران) ..
فأنشأت حكماً أدخلها التاريخ في وقتٍ قصير لم يتجاوز الخمس سنوات وتحولت تدمر إلى ِقبلة للفن والثقافة والتجارة، فورثت المجد التجاري لدولة الأنباط في بلاد الشام والتي قام حكمها في صحراء الأردن وسيناء والنقب وأجزاء من شمال شبه الجزيرة العربية وكانت عاصمتها مدينة البتراء، وكان جيشها الذي يبلغ جنوده ٧٠,٠٠٠ جندي شديد الإنضباط، مدرباً ومجهزاً ومعداً لأشرس المعارك وعرف مقاتلوه ببأسهم الشديد، وكانت المناصب القيادية للحكم موزعةً ومنظمةً بدقةٍ كبيرة، كما قامت زنوبيا بإنشاء مشاريع قوية لتحصين تدمر وكان أحدها السور المحيط بها والذي كان يشكل دائرة يبلغ قطرها ٢١ كيلومتراً، وبنت المعابد والمسارح والأعمدة التي يزيد ارتفاعها عن ١٥ متراً والتي تحولت إلى رمزٍ لمملكة تدمر، كما أصبح معبد الشمس هو أكبر الآثار التدمرية،وأقامت الثغور مثل (حلبية) و (زلبية) على ضفتي الفرات..
وكانت إمرأة ً طموحة صنعت مكانتها بنفسها، وكانت تمنيها ببسط سلطانها على روما بعد أن تحولت تدمر من تابعٍ إلى حليف ثم إلى منافس وأصبحت في عهدها خطراً يهددها، فلم تكن مجرد أمنية بل كانت تعد لذلك أيضاً من خلال تعليم أبنائها لغة روما وتاريخها وآدابها، كما كانت تحرص على زينتها وصورتها كملكةٍ تضاهي الأباطرة والملوك ومواكبها مرصعةٌ بالذهب والفضة والأحجار الكريمة، وعرف عنها إجادة ركوب الخيل فكانت تتنقل على ظهر فرسها مرتديةً خوذتها وملابس الرجال..
أما قيامها بغزو مصر عام ٢٧٠ م فكان حدثاً مفصلياً في مسيرتها لأبعاده المختلفة وتبعاته السياسية والإقتصادية وتأثيره على نظرة الملوك لها، وتوجد بعض الآثار التي تخصها هناك خاصة ً في الإسكندرية التي كانت من محطات صراعها مع روما، والتي كان توسعها بإتجاهها واتجاه آسيا الصغرى مفزعاً لملكها خاصةً أنه لم يكن ثابتاً بل كان في ازديادٍ مستمر فشمل كل سوريا ومعظم بلاد الشام وامتدت من شواطئ البسفور حتى النيل، وأطلقت عليها الإمبراطورية الشرقية مملكة تدمر وأصبحت أهم الممالك وأقواها في الشرق على الإطلاق..
وكان أحد أهم أهداف (أورليان) ملك روما الذي تولى الحكم في عام ٢٧٠ م هو القضاء على نفوذها وتنحيتها، خاصة ً بعد أن قامت بسك النقود في أنطاكية وتخصيص قطعٍ منها لمملكتها وطباعة صورة ابنها (وهب اللات) عليها لتميز العملة التدمرية السورية عن العملة في روما، عدا عن منعها وصول الحبوب إليهم مما أدى إلى نقص الخبز في الإمبراطورية الرومانية والذي كان له عميق الأثر في اعتبارها تهديداً حقيقياً لها، فظل يخفي نيته تجاهها حتى بسط نفوذه في آسيا استعداداً لمواجهة جيشها في تدمر، وعندها حاولت الاستنجاد بالفرس وذهبت متخفيةً لملاقاة (هرمز) ملكهم ولكن قبل أن تعبر الفرات كانت جيوش الرومان بإنتظارها، فقبضوا عليها وأعادوها إلى خيمة (أورليان) الذي عاد بها إلى روما أسيرةً مكبلة بأصفاد من الذهب عام ٢٧٢ م..
أما نهايتها فظلت غامضة ً لكنها وثقت في عام ٢٧٤م، فهناك روايات تميل إلى انتحارها رفضاً للهزيمة، وهناك روايات ٌ تشير إلى إعدامها ولكن لا أحد يستطيع تأكيد أحدها أو نفيه، لكن المؤكد هو ثراء تجربتها وفرادتها التي استطاعت أن تدخل التاريخ من أوسع أبوابه رغم قصر فترة حكمها وانتهاء حياتها في سن الرابعة والثلاثين، وتشير حكايتها إلى الصراعات التي طالما حكمت علاقة الشرق والغرب منذ آلاف السنين ولم تنتهي بعد..
خالد جهاد..
Post A Comment: