************************
رحم الله الشاعر الكبير عبدالرحمن السقاف،فقد كان الشعر- منذ بدأ يقرضه- ديدنه، وقيثارته، وأحلامه ،ورؤاه، وأحزانه،وألآمه،وغناءه. يكتب شعره عن كل هموم وتفاصيل الحياة اليومية، وعن حياته الشخصية، وعن الأصدقاء والزملاء، وعن مدينته، وعن الزمان والمكان.........الخ.
عرفته منذ أكثر من عشرين عاما في إذاعة وقناة عدن الفضائية معداً ومقدماً للبرامج الثقافية. كنا نجلس معا في قسم الإعداد البرامجي، نتحاور ونتناقش في القضايا الفكرية والأدبية والنقدية، اشتركنا في إعداد الكثير من البرامج الثقافية، والفنية.
التجربة الشعرية عند عبدالرحمن السقاف، تجربة طويلة وعميقة، ولها أبعاد متفاوتة.
للشاعر السقاف- حتى كتابة هذه المقالة- أربعة دواوين مطبوعة:
للوردة رأي أيضا.
دندنات لسيدة الموج.
دم الينابيع(هذه رطانتي).
مدينة بلا بيوت.
الديوان الأخير (مدينة بلابيوت) كان أهداني إياه عقب صدوره سنة2008م. وجاء في الإهداء:(دفاعك يا أمين لغيرتك على الكلمة الشجاعة، لابدّ أن يأتي غيماً ومطراً). لم أتمكّن- في ذلك الوقت-من نقد الديوان في وقته؛ نتيجة انشغالي المتواصل في العمل الإعلامي(قناة عدن الفضائية).وها أنذا أعود إليه بعد هذه المدّة الطويلة، وأقدّم أوراق إعتمادي،ولكن بعد رحيل صاحب الديوان، تغمّده المولى – سبحانه وتعالى- بواسع رحمته.
ماذا أقول عن ديوان(مدينة بلا بيوت)؟
أقول: إنّني لستُ راضيا عنه كل الرضا، ولستُ ساخطاً عنه كل السخط. فهو بين بين، ولستُ أدري هذا الكم من القصائد(29 قصيدة).
الحقيقة أنّني لستُ مع تسمية الديوان الذي وضعه الشاعر لديوانه(مدينة بلابيوت)- وهي اسم قصيدة في الديوان -؛لأنها ليست أفضل القصائد،وليس لها ثقل سياسي،أو أدبي، باعتبار أن القصيدة كُتبتْ في صنعاء، وهي في رأيي تتحدث عن مدينة صنعاء، وقد جاءها الشاعر بعد فترة طويلة، ووجدها كما وجدها مدينة بلا بيوت، وكلمة (بلابيوت) لها دلالتها. فهي تعبّر عن كل ما رأه الشاعر في هذه المدينة.
مدينة غريبة تلهث وراء الزيف والتجارة، والعربدة. وفي الطريق يرى الشاعر طفلة تتسوّل، وتبحث عن الرغيف:
يا مدينة بلا بيوت
وجئتكِ يشدّني اشتياقْ
وجدتكِ مدينة
تعربد الخطى على المساء
تجارةً وزيفْ
تجمّع الشرودُ في عيوننا بلا عناقْ
فتهتُ في ازدحام عريكِ
على الطريق
وفي الرصيف..
رأيتُ دمعةً تمرّ بالتسوّل
وتسألُ عن الرغيفْ(راجع القصيدة ص101)
القصيدة تقريرية، وكأنّها نثرية، على الرغم من أنها موزونة على تفعيلة(الرجز) مستفعلن.
في اعتقادي أن هناك قصيدتين رائعتين، كان الأفضل أن يسمّي الشاعر واحدة منهما اسماً للديوان هما:(صباح المغنّي)و(فراشة العمر الجميل)؛لأنهما تعبران – بحق- عن نزيف الشاعر عبدالرحمن السقاف.
في (صباح المغني)، على الرغم من الألم، والحزن، واليأس، والظلم، والعذاب،الذي عاناه الشاعر، إلاّ أنه سيظل يغني،أو كما قال:( سيبقى المغني يغني):
إلى أي نبع ستمضي القصيدةْ
نقول:
سيحلم شعري
يحملُ دنيا وكوناً بأسره
ويمضي يرشُّ الزمان
صباحاً مساءً بعطره
وينشرُ ضوعاً
سخيّاً بسحره
سيفضي الصباح
حديث الدوالي
لشعرٍ يضمُّ
الزمان/ المكان
لأسرار سرّه
سيبقى المغني يغني
سيمسحُ دمعاً
إذا ما تحدّر
على خدّ زهرة
سيبقى المغني يغنّي
ستقرأُ كلُّ النهارات
شعره (ص79-80).
وفي (فراشة العمر الجميل- رطانة النهر)، تقترب كثيراً من نسق قصيدة(صباح المغنّي) مبنىً ومعنىً:
يا سادة الأرض
في الحلم يشتعلُ الحريقْ
من للمنى عشبٌ يسيّجها
وينفتح الطريقْ
وحدي أنا..
إني أرى النهرَ منغلقاً عليّ
ورطانة النهر
تنهض بالدماء
هل جرّب القومُ أعشابَ الدماء
ماذا لقي
رجلٌ تقحّم خيله التّعبَ
وضجّت مهرةُ الريح به
وألقى صدره نارا
ماذا لقي؟
غير ضوء حاصر دمعه
وأعطاه انتشارا
وفراشة(العمر الجميل)
ضوءٌ يراودها
لينبثق النخيلْ
وحدي إذن
قررتُ: النهار مطيّتي
أركضُ
في صباحاتٍ ويحملني الصهيلْ (ص99-100).
ويقول في قصيدة(ضوع النهار):
نَلْها مشيدة البريق وسَوِّها
فصر الضياء في الذرى معمورا
سراً تُنظّمه النجوم لعرسها
وتضيف من ألق المدى تعميرا
اطوِ هواجسكَ الرقاق فأنّني
أدنو إلى أرق اللظى ليمورا
تُشقي أغانيك الهوى فيجيئني
صدر الهوى في نرجسٍ مَنْشورا
إني مغالبة القوافي أحثّها
تجلو الذي تحت الثرى مطمورا
خذها مورّدةَ الجبين وإنها
ضوع النهار تفتّقت وعبيرا(ص7 الديوان)
واضح القصيدة بيتية وعلى بحر الكامل(متفاعلن)،وفيها كسور عروضية ،البيت الثاني من العجز عند كلمة(في الذرى) وهذه التفعيلة مصابة(بالخبن). والخبن لايأتي في بحر الكامل، وإنما يدخل في بحر الرجز وغيره. كذلك البيت الثالث في الصدر به كسر عروضي فعل الأمر(اطوِ). كذلك كسر عروضي في البيت الخامس كلمة(أحثّها).
من الأمور التي تأخذ على الديوان تكرار الألفاظ والكلمات في أكثر من قصيدة،وهي معيبة في حق الشاعر، الذي يبدو أنه لم ينتبه إلى ذلك مثلاً:
كلمة (القرى) تكرّرت في أكثر من قصيدة:
ص70،75،92،84،89،120،118،113،19،18،15
(ضوع) ص7،110
(ثنايا اللغة)ص59،20،55
(دوالي)ص17،79،90،
(الطريق)ص69،75،92،99،102،106،123
(اكتظاظ).
(ذرى)..........الخ.
هناك أيضاً ملاحظة مهمة جداً وهي أن الشاعر لايجيد في مطالع قصائده أو مقدماتها مثلاً:
في قصيدة(آخر الدندنات) ص125
مطلع القصيدة يبدا هكذا:
إلى ما تمدُّ المساء
وفي قصيدة(البوح) ص123
مطلع القصيدة يبدا هكذا:
.. والطريق..
وانطلاق المدى شجّركْ
وفي قصيدة(مدينة بلا بيوت)ص101
تأتي القصيدة على النحو التالي:
بمركبِ الشرودِ
أجيئك الغريب
وفي قصيدة (جدّة النار)ص50
تجيء القصيدة كالتالي:
تَسْتقبله...
والغاباتُ لديها عامرةٌ بالنشوة
وفي قصيدة(حقول الموشّح)ص24
تجيء القصيدة على النحو التالي:
بصحراء روحي سألتُ
وغيرها من القصائد.
أما من ناحية الأوزان والموسيقى في الديوان،فالشاعر يهتم به اهتماما كبيرا. فقد نوّع الشاعر في البحور الشعرية، ومزج فيما بينها، حيث استخدم الشاعر بحرين في قصيدة واحدة مثل قصيدة(بعد هذا الرحيل) التي جاءت على تفعيلة المتقارب والمتدارك:
إلام انتهينا
إلامَ انتهتْ رحلةُ عذبت
نهذة البلبل
فوق جذع العمر
شرّقت/ غرّبت دمعه
واستباح المساء
عُشّه/ فرشه
والتعب
خيله
والتعب
مركبٌ مبحرٌ بين صمت القرى
والتعب
المقطع الأول جاء على المتقارب، والمقطع الثاني على المتدارك يبدا من عند(فوق جذع العمر) ص15
استخدم الشاعر في ديوانه بعض البحور الشعرية المعروفة مثل: الكامل، المتقارب، المتدارك، الرجز.
أمين المَيْسَري
شاعرٌ وناقدٌ وإعلامي من اليمن.
Post A Comment: