______قصة______

تبدو الأمور كما العادة، مجرد قصة لا أكثر، قليل من الحبر، ورقة ناصعة البياض، فكرة سابقة أوجدت فكرة كتابة القصة، شخوص بملامح ووظائف معينة، حدث مكتمل التفاصيل.
 كل شيء جاهز، لا يحتاج الأمر الآن إلا لوقت يسير فإذا بالقصة تستجمع مقوماتها، وتتخذ شكلها الأخير.
عنوان القصة "قصة" مستوحى من قصة خيالية، قد تكون ربما ذات ارتباط بالواقع، يجمعهما رابطة الغرابة أو شيء من هذا القبيل، إلا أن انتماءها في الأصل ضارب جذوره في أرومة الخيال.. الشخوص باستثناء الراوي -نسخة لفلان وعلان، تتصل ملامحهم حد التماهي، وتقوم شخصياتهم على أسس واحدة، فهم واقعيون بكل فخر.. الفكرة تسللت عبر نافذة مشرعة على الفضاء العام، مهملة تعاني التهميش، وفي حاجة ملحة للإصلاح والتجديد، فهي إلى حد بعيد تشبه إناء القمامة الموضوع بإهمال إزاء نافذتي، غير أن الفكرة لم يحم حولها الذباب بعد، ربما لكونها لم تتعفن بعد، أو لأنها كيان معنوي لا يجد الذباب إليها سبيلا.
سأشرع الآن في تنفيذ الخطة المرسومة مسبقا، وأعمل على إفراغ محتوى القصة في قالب معلوم، فالأسلوب المتبع كفيل بوضع كل شيء في الموضع اللائق، وإرغام العناصر الأساسية على الخضوع، والعمل وفق الخطة، لن يكون ثمة ما يعكر صفو خاطري، ستجري الأمور وفق ما أريد.
حقا كنت لأذهل عن تأصيل الأسلوب المتبنى، وأنسى لأذكر لكم من أي عالم جئت به، فهو مثل العناصر الأخرى المستعارة من الواقع لتأدية دوره والعودة إلى حيث يحق له الوجود!! غير أن ما يميزه عن العناصر الأخرى، سلطته الصارمة، وقوته المطلقة على إعادة صياغة الأمور والأشياء صياغة لا يشاركه فيها أحد.
                    ****************
الآن أنا على وشك البداية، لكن ثمة أمرا ما أحاول تبينه، لم يحدث لي أن ارتبكت أو ترددت أو شعرت بغرابة قبل أن أطأ عتبة السرد وأسلم المهمة للراوي، ومن ثمة أتخلص من المسؤولية، وأكتفي بالمتابعة ومعاينة ما يجري بنشاط وشغب، فأضحك حينا ملء فمي لعبث الراوي بالشخوص وممارسته عليهم شذوذه تارة وغصبهم في حريتهم أخرى، وإلقائهم في بؤر ساخنة تذيب جلودهم، دون أن يتحرج من فعلته، أو يجد معارضة توقفه عند حده، وحينا أجدني مضطرا لسؤالي نفسي عما يقع داخل النص، والاستفسار عن مبلغ الفساد الذي بلغه الراوي، لكن السؤال يبقى عالقا، والاستفسار يذهب سدى.
على أي فأنا دائما ما أعهد المهمة لراو انتقيته بعناية ممن لي بهم علاقة وطيدة، فإما أن يكون جاري النجار المحاذي لبيتنا، أو الخباز المقابل لحينا، أو البنكي... أحرص على أن يكون الراوي من معارفي، لكن الأمر العجيب، أن الجميع حين يتفرد بالنص يصبح بشرا من حديد!! بينما أنا اخترت له هيئة حبرية!! 
فالنجار يروي قصة شخوصها نشرت بالمنشار لتلائم الحجم والشكل، والخباز يروي قصة أحداثها تحيط بها النيران من كل جانب حتى أن أبطالها لا تجد لهم ذكرا خارج الفرن، والبنكي يروي قصة فكرتها صهر شخوصها وسبكها دراهم معدودة.
- ما الذي جعلني أرتبك، وأقف لأجيل النظر في سابق قصصي؟ ألم تكن القصة بالنسبة إلي مجرد لعب ولهو؟
لم أتذكر أن قصة أخذت مني هذا الجهد، وتركتني في حيرة من أمري.
لكن مهلا، متى كلفت راو من عالم الخيال ليؤدي مهمة السرد؟ علاوة على ذلك فهو مثالي متخم بالفضيلة.
ربما السر يكمن هنا، فالراوي كائن فاضل، انتزعته من عالم حالم، وحتى العنوان لا صلة له بالواقع إلا من جانب واحد، أن الجميع يتلفظه، وما أسهله، إنه ببساطة "الكرامة الإنسانية".
أيكون الراوي والعنوان تمردا علي؟ 
الأمر بحق مرهق، وأنا لا أحتمل هذا العناء، ولست على استعداد لمناقشة الراوي، ومحاولة إقناعه أن الكاتب يحاول أن يلقي بظلال الخيال على الواقع، فيمزج الإثنين ليقع نصه موقع القبول والرضا، دون النظر لمصداقيته، ومبلغ الحقيقة فيه، فرأيت أن أعهد بمهمة إقناع الراوي -توفيرا لراحتي- إلى جيراني الذين لم يخيبوني قط، النجار والخباز، والبنكي.






Share To: