في ليلة من ليالي الشتاء قارس البرودة، والجليد يخيم على اسقف المنازل، وزوايا الشوارع ... سمعت أنفاس تلهث بقوة... وقلب ينبض خوفاً وألماً... ثم رأيت امرأة تحمل طفلها الرضيع بين ضلوعها، وتعدو به فوق الثلوج... ثم رأيتها تلوِّح بيديها... ربما تريد المساعدة... ورأيت قدمها تزِل، وتتعثر بين تكتلات الجليد... ثم تقوم وتنظر خلفها برعبٍ، وتكمل عدوها بسرعة كبيرة... ثم تارة تنظر خلفها، وتارة تكمل عدوها.... ارتبت في أمرها... ربما تهرب من شئٍ ما، ربما هناك من يطاردها... ثم توقفت في كهفٍ قريب من البيوت.. لتلتقط أنفاسها المتناثرة بين كتل الجليد... استراحت قليلاً، وخرجت من ذلك الكهف حامِلة رضيعها... ثم رأيتها تركض لمدة نصف ساعة، دون توقف... ربما ابتعدت كيلو عن ذلك الكهف... توقفت وركعت على ركبتيها ونكست رأسها لأسفل، كأنها تقول لم أعد أستطيع أم اكمل... جَفّ حليبها، ولن تستطيع إرضاع ابنها... وهو يصرخ من الجوع... ثم دفنت رأسه في صدرها وانتصبت، ثم رفعت رأسها نحو السماء وصرخت :
" يا الله... أنت ترى ابني العاري، ولا يكسوه سوى جلده العاري... وتسمع أنين أَمَتَك... لماذا لا تتدخل؟!... لماذا تغلق السماء أبوابها عن أنيني... لماذا تسد السماء اذناها عن صرخاته"
ثم نظرت إلى الأرض بأسى وحزن شديدين، وخلعت كل ملابسها، وقمطت ابنها جيداً... لعله يدفأ فيتوقف عن الصراخ.. ثم راحت تصرخ بهيستيرية منقطعة النظير... فلم يسمعها أحد. ثم نظرت إلى ابنها وقالت له
" يا بني... السماء تسد أذناها عن سماعك، والأرض تمتص دموعك... لا تقلق... ستعيش في ضلوع أمك... أمك هي الشخص الوحيد الذي يبقى حينما يرحل الجميع... وهي الوحيدة التي تسمع حينما يصمت الجميع... لا تقلق... ستعيش.. حتى لو طردوني قائلين أنك ابن عار... لا تصدقهم فإنجابي لك كان من الشخص الذي أحببته... الشخص الذي اختارته نفسي... وليس من اختارته لي العادات والتقاليد... "
ثم نامت على الجليد لتلفظ أنفاسها الأخيرة... ثم... وفجأة!... سمعت خطوات ثقيلة آتية نحوهما... فابتسمت، وأسلمت الروح...
- من يصرخ هناك؟!
قالها الشيخ بصوت عالي... فلم يجبه أحد...
- هنا!
هكذا قالت امرأة الشيخ، والدموع تنهمر من عينيها...
أتى الشيخ ونظر، ثم تساقطت دموعه وبينما همّ بأن يلتقط الابن من صدر امه... وجد رسالة مكتوبة بدماءها
"إلى من يهمه الأمر... أنا هي تلك الزائرة التي قرعت كل البيوت، ولم يفتح لها أحد.... وأنا هي تلك المرأة التي أضحكت الجميع، وماتت والدموع علي خديها... انظر إلى ذلك الطفل الصغير... أليس جميلاً؟!... أرجوك تبناه... اعتبره زبنك ان أحببت.... أما أنا فاتركني هنا في العراء، لتأكلني طيور السماء، وتتغذى علي الكواسر... أرجوك لا تحرك جثتي من مكانها، لأن الشئ الوحيد الذي سأكونه، هو درس لتلك الأمهات... وعِبرة لكل الأباء... "
- هذه هي حكايتك يابني.... وهذه هي حكاية أمك التي أحبتك بصدق....
هكذا قال الشيخ للشاب.... فبكى الشاب..... انها قصة أم مفقودة.....
Post A Comment: