تبدو الربوة أمامه كجبل شاهق، عليه أن يصعد إلى قمتها ليستطيع إجراء الاتصال، فهناك فقط توجد تغطية مناسبة.

أجرى الاتصال المنشود، سمع الصوت من الجانب الآخر يخاطبه بشوق ولهفة:


كيف حالك يابني؟


بخير يا أمي، الحمد لله


هل تأكل جيدا؟ تنام جيدا؟ هل ينقصك شيء؟


أنا بخير، اطمئني. اشتقت إليكم فقط.


ونحن أكثر، كم تبقى على أقرب عطلة.


حوالي أسبوعين


انتبه لنفسك يا بني، لدي خبر مفرح....

انقطع الخط فجأة، ليكتشف أن بطارية هاتفه نفذت، كان متلهفا لإجراء الاتصال لدرجة انه نسي شحن البطارية.

غالبا ما يكون الهبوط أسرع وأسهل، لكن عقله منشغل بكلام امه الذي بقي لغزا، " هناك خبر مفرح، لكن ما هو؟"

سرت في ذهنه سيناريوهات عديدة، تذكر أنه قدم طلبا للانتقال، وسلمه لأحد معارفه قصد التوسط له لدى أحد المسؤولين، كانت الوعود كبيرة، وأحلامه ما فتئت تكبر، وهو يرى نفسه ينتقل من هذه القرية النائية المرمية وسط الجبال، ليعمل في مدينته، هناك حيث الأسرة، والحضن الدافئ، والأصدقاء، وجلسة المقهى وصخب الشوارع والأسواق، وحبيبة القلب التي يفتقدها كثيرا، وكل الأشياء التي تثير شابا في العشرينيات من عمره. لم يعد يفصله عن العطلة سوى أيام قليلة. يترقب العطلة بلهفة، ويرسم في خياله صورا للقاء، وسيناريوهات للأيام التي سيقضيها هناك، ليعوض لحظات المعاناة، ووقع الوحدة والعزلة التي يعيشها هنا.

البرد قارس، والوحدة قاتلة، وذلك التلفاز مؤنسه الوحيد، عما قليل سيطفأ، فالكهرباء لا تستمر سوى خمس ساعات، ولم يتبق الكثير.

طرقات على الباب تجعله ينتفض من مكانه، لم يعتد على زيارات ليلية، وحتى زميله الوحيد في العمل لم يستطع العودة من المدينة، بعد أن أغلق فيضان الوادي المسلك الطرقي الوحيد المؤدي إلى البلدة.

أمام الباب طفلان، فتى وفتاة، يعرفهما جيدا، فهما تلميذيه، قدمت له الفتاة رزمة ملفوفة في ثوب، وقبل ان يسألها عن الأمر، تحدثت بخجل:


لقد أرسلت إليك أمي بعض الخبز الساخن يا أستاذ.

شكرهما، وتابعهما ببصره وهما ينصرفان عدوا، يبحثان عن وسيلة لتدفئة جسميهما بعدما عجزت الملابس الخفيفة التي يرتديانها عن ذلك.

ساد الظلام الارجاء، وسبحت غرفته بدورها في عتمته، حمل مصباحا يدويا، وارتدى معطفه الثقيل، ولف رأسه في طاقية صوفية، وانتعل حذاءه العسكري الأسود فوق زوجين من الجوارب. ولم ينس القفازات بطبيعة الحال. فقد كانت القرية تحت رحمة الجبال المحيطة بها، وحين تترصع القمم بالثلوج، تعاني القرية المسكينة من البرد والصقيع.

صعد الربوة من جديد، يحاصره الظلام، وتخيفه الصخور التي بدت كوحوش من قصص الخيال، ويرن في أذنه صفير الرياح كصليل سيوف تريق الدماء.

وصل اخيرا للقمة، تكاد أنفاسه تتقطع، بيد مرتجفة ركب رقم أمه:


مساء الخير يا أمي.


مساء الخير، ما الذي حصل؟ انقطع الخط وبقيت أسيرة الهواجس.


نفذت بطارية الهاتف


الحمد لله أنك بخير. هل تناولت عشاءك؟ كيف الجو هناك؟ هنا تتساقط الأمطار بوداعة، منظر رائع يتبدى أمامي الآن. لا شك أن الوضع سيكون أروع هناك.


نعم يا أمي، شديد الروعة. ردَّ بمرارة. وأضاف بعدما شعر بأطرافه تتجمد:


ما الخبر المفرح الذي...؟

قاطعتنه بنبرة مرحة:


أختك يا بني، سيعقد قرانها قريبا، لا تتصور مدى فرحتنا..

قاطعها بدوره:


مبروك، هل من خبر عن طلبي؟

ساد الصمت لهنيهة، ربما لم تتقبل أمي طريقة التعبير عن فرحي بزواج اختي، كنت مجمد الجسد، فكيف لا تتجمد مشاعري؟


عليك أن تقضي موسما آخر هناك، فلا حل آخر. أجابت بعد تردد قصير، وبنبرة يملؤها الحزن.

ودعها وهو يضغط على اسنانه من الغيظ، شعور مقيت بالضياع يسيطر عليه، بدأ النزول بحذر، مع الظلام لا يمكنك أن تسرع أو تجري مستمتعا بإحساس الجاذبية، قد تسقط في أية لحظة، لكنه يعلم أنه مهما تعثر وسقط، ومهما تألم ونزف، فلا بد أن يعود من جديد، ويصعد الربوة العالية، فهناك فقط يتصل بعالمه وبأحبابه، ليستمر في الحياة.










Share To: