ليس فعل القراءة أقل متعة من مشاهدة لوحة فنية أو الوقوف أمام البحر للنظر في جمالية أمواجه وهي تعانق بعضها البعض وتبتلع الواحدة الأخرى محدثة لوحة سوريالية جميلة، هو نفس الإحساس بالمتعة ينتابك وانت تقلب صفحات كتابك المفضل وقد انخرطت في قراءة منجزه اللغوي بكل حب ومازوشية كالغطاس الذي يرتمي بذاته في عمق المحيط. نرتمي كلية وسط نص يمتلكنا حينا ونتملكه حينا آخر دون اضطراب ولا قلق، الصبر شيمة القارئ المتيم بحب الكتب وحين تتجاوز علاقتنا بالنص الهيام إلى الامتلاك يصبح فعل القراءة ضرورة وجودية يومية ومطلب ملحاح لا بد من إشباعه وإلا حصل اضطراب وجودي في الذات. إن هذه العلاقة الضرورية مع النص هي التي تمنح للقارئ ذلك المفتاح لا يمنحه النص لقارئ عابر أو زائر يعرج على النص بين الفينة والأخرى، فالنصوص كالصحراء لا تبوح بسرها للعابرين بين عشية وضحاها وأولئك الذين يشمئزون من قساوة مناخها وصعوبة العيش فيها فيهجرونها على وجه السرعة بل تبوح بسرها لمن يمشي وئيدا يتطلع لكثبانها الرملية الزاحفة كأخدود من الكلمات ويتأمل ليلها العميق وحسن سمائها المرصعة بالنجوم في ليلة مظلمة هي كذلك علاقتنا بالنصوص التي تشبه الصحراء لا تبوح بسرها إلا لقارئ مدمن نهم لا ييأس من مطبات اللغة ولا يرهبه حشد الكلمات المتحركة كجيش عرم، درب القراءة طويل وشاق شائك المسار بين الجناس والطباق حينا والحشو الإطناب حينا آخر... إن القارئ الجيد كالرحالة لا يثنيه طول الطريق ولا حلكة الظلام لا يخاف العطش والجوع لا عتمة النص وسلطته، ولا سديم المعنى الخفي ولا ضبابية اللغة وحشوها، له القدرة على متابعة السير واقتفاء الأثر يشبه الفيلولوجي ينقب عن المعنى، يسير وسط حشد الكلمات دوم كلل وملل بهدوء يسير في حركية تفكيرية يستكشف فيها عوالم النص ويستنطق المسكوت عنه، يستمع للكلمات ويجيد فن الإنصات لذبذبات الفكر والمعنى يتحدث حينا على طريقته وتستمع أخرى لحديث النص، يقيم حوار الغاية منه بلوغ المعنى وتأويل النص. القراءة جسر العبور بالذات نحو المعنى في النص، فالقدرة على الإنصات للنص هي بداية القبض على المعنى قبل إقامة حوار مع النص، حوار يقود تخليص النص من العمومية التي أسقط فيها من خلال لقاء عابر لقارئ جمعه بالنص فحدثت القطيعة مع المعنى نتيجة حكم مسبق عليه.
النص منجز لغوي مستقل بذاته تتسع هوته إذا ما ترك دون قارئ فقد تضيع المعنى ويفقد النص حياته الداخلية، القراءة الفعل الوحيد الذي يبعث النص للحياة من جديد ويلغي عزلة النص. أحيانا قد تكون القراءة لا تلغي عزلة النص إذا كانت عابرة او سطحية فهي تعمق الهوة مع النص، فكما أشرنا سابقا النص لا يبوح بسره للعابرين أو من يريد اقتحام عالم النص عنوة. العزلة تذوب حين نقرر الإقامة داخل النص وفي عالم النص فيحدث التطابق بين حياة النص وحياة القارئ فيصبحا كيان واحد وذوات متطابقة مما يسهل معه عملية فهم النص واستكشاف معانيه، إنها إقامة تتيح للقارئ حرية الكلام مع النص وإقامة حوار معه، فالتفكير داخل النص لا يعني انصهار كلي لذات القارئ في عالم النص ولا يعني امتلاك كلي للنص وإعلان عن نهايته بل الغاية منها القبض على المعنى في النص.
بما أن القراءة هي جسر عبور نحو معنى النص واستكشاف عوالمه فإن تلك الغاية تقتضي إقامة حوار جدلي وعلاقة تكاملية بين النص كحقل دلالي حي متحرك وبين القارئ الباحث عن المعنى والمستكشف للحقل الرمزي للنص، علاقة حوارية أساسها تفكيك بنية النص المضمرة وبلوغ المعنى الكلي. حين نقيم علاقة داخل النص يحصل التطابق وتلغى المسافات مع النص حينها لا يعدو النص جسما غريبا عنا بل صديق لفهم ذواتنا وافكارنا وعواطفنا وتنظيمها على غرار التنظيم الحاصل في النص وأحيانا يمنحنا الآلية لنقد أفكارنا وتفكيك بنيتها لإعادة تركيبها من جديد في بنية منظمة ذات معنى، نحن لا نتعلم إلا بالقراءة وعبرها فكل نص يمنحنا الزاد المعرفي والمنهجي الذي يمكن أن نعبر به الصحراء القاحلة وعوالم الجهل وهدم صنمية الذات نحو عوالم فكر حي يقوم على التفكيك والهدم وإعادة البناء.
Post A Comment: