الكاتب المغربي مصطفى الأحوال يكتب مقالًا تحت عنوان "الفلسفة فن البحث عن الجواب ، وليست فن إثارة السؤال"


الفلسفة ليست فقط فكر نقدي واستقلال أو أسلوب متماسك في التفكير أو لفن التفكير المتجدر في موقف الدهشة والتساؤل، بل أكثر من ذلك حماية أنفسنا في كثير من الأحيان، فالفلسفة وحدها قادرة على قهر المخاوف التي تعدم الحياة، وقادرة في الآن نفسه أن تعلمنا الحياة وعدم الخوف أو القلق من محدودية الزمان على حد تعبير هايدغرأو التناهي أو الموت,بل أكثر من ذلك تساعدنا على تخطي تفاهة الحياة اليومية. هذا ما تخبرنا اياه مدارس التاريخ اليوناني القديم. كالمدرسة القورينائية والمدرسة الكلبية والشكاك ايضا، والأبيقورية والرواقية. هذه المدارس ركزت على النقطة الأساسية المتعلقة بفناء الإنسان وإدراكه لفناءه أو نهايته. فهذا الوضع المقلق والعبثي والذي لا يحتمل هو نقطة البداية، بداية البحث عن الجواب الذي من شأنه أن ينقذنا من هذا الخوف والقلق المتولد عن الموت. فالفلسفة ليس سياحة فكرية نقوم بها لذاتها كما قال راسل في حكمة الغرب،  وليست بناء موقف ابستمولوجي من الوجود، أو موقف أخلاقي سياسي صرف. فالحكمة تأتي متأخرة كما أخبرنا هيجل، تأتي بعد النظرية والأخلاق، فالحكمة في عمقها إنقاذ أو ماكانو يطلقون عليه قديما بالسوتيريولوجي المشتقة من الكلمة اليونانية " سوتيريو " ومعناها الإنقاذ. إنقاذ الإنسان من كل المخاوف والوساوس التي تثيرها فيه المحدودية في الزمن. فادراكنا للموت المتربص بنا يجعلنا أكثر تساؤلا وبحثا عن الجواب الذي سيحررنا من الخوف، ويفيدنا في معرفة ماذا عسانا فاعلون في هذه الإقامة القصيرة هاهنا. هكذا اتجه الإنسان إلى تكوين فكرة عن المكان الذي قذف به إليه دون رغبة منه أو بلغة الفلسفة المهمة النظرية. لينتقل بعد ذلك إلى البحث الأجوبة التي تعينه على الإقامة مع الغير وكيفية التصرف بطريقة عادلة أو بلغة الفلسفة المهمة الأخلاقية. لينتقل بعد ذلك إلى السوتيريولوجي، الذي هو قلب الحكمة ذاتها وهذا مايؤكده أبيقور في رسالة إلى هيرودت:مالم يكن بنا حاجة إلى التخلص من خوف الموت والآلهة لما بحثنا في الطبيعة "(حلمي مطر الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها).فالبحث في الطبيعة لم يكن غاية في ذاته ، بل وسيلة غايتها الوصول إلى حالة الآتراكسيا "فنزعتهم المادية في الطبيعة التي تنتهي إلى الخلو من الهموم والوصول إلى حالة الآتراكسيا التي يبلغها الفيلسوف عندما تتوفر له الرؤية العقلية الصحيحة في الأشياء"(حلمي مطر الفلسفة اليونانية تاريخها و مشكلاتها).فلا سبيل لبلوغ الحكمة أو الآتراكسيا إلا بالقضاء على تلك المخاوف التي تشل النفس البشرية.، هنا تصير الحكمة أو الفلسفة جوابا شافيا إذ لم نقل علاجا. فالفلسفة على حد تعبير أبيقور هي طبابة النفس. فأبيقور يقترح أربعة علاجات للوساوس المتأتية مباشرة من واقع إننا فانون " ليس لنا أن نخاف من الآلهة ولا من الموت، الخير سهل المنال، والشر سهل الإحتمال. " ويقول في رسالته إلى مينيكايوس:"لتعود نفسك على القول بأن الموت ليس شيئا يتعلق بنا ذلك لأن الخير والشر لا يوجدان إلا في إحساسنا والموت هو فقدان هذا الإحساس فهو لا شيء بالنسبة لنا مادمنا لا نحس معه بشيء ومعرفة هذه الحقيقة تتيح لنا أن ننعم بهذه الحياة الفانية. "(حلمي مطر نفس المرجع).لكي تكون حكيما يجب أن تعيش بحكمة سعيدا وحرا على قدر الإمكان بعد تغلبك على المخاوف التي أيقظتها نهائية الإنسان فيك. لذلك ترى الرواقية أن الحكيم سيتمكن بفضل صائب للفكر وممارسته على صعيد العمل من التوصل الى شكل من اشكال الخلود الانساني، سيموت بالتأكيد لكن الموت لن يكون بالنسبة له النهاية المطلقة لكل شيء، بل تحولا من حال الى أخرى في خضم كون يملك كماله الكلي استقرارا إلهيا ( كوسموس ) "يقول ابيكتات ليس هناك فناء تام بل تحولات بين الأشياء والموت ليس شيئا غير ذلك، فالكائن الموجود لا يتحول إلى اللاوجود بل يتغير إلى شيئ آخر يحتاج العالم إليه. .فإنك لم تولد عندما أردت انت ذلك، بل عندما ظهرت حاجة العالم إلى وجودك"(حلمي مطر الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها ) أو كما قال مارك اوريل " أنت موجود كجزء وستختفي في الكل الذي أنتجك، أو بالأحرى وعن طريق التحول سوف يستقبلك في كنهه الخلاق" .أما ماركوس اوريلوس فيقول: لذكر دائما قول هيراقليطس:إن موت الأرض هو أن تتحول إلى ماء،وموت الماء أن يتحول إلى هواء، وموت الهواء أن يتحول إلى نار.وهكذا وذواليك. " ويقول أيضا لا تلعن الموت بل تقبله قبولا حسنا، ولنعده أمرا تتطلبه الطبيعة.فتحلل وجودنا عملية طبيعية شأنها شأن الشباب والشيخوخة، والحكيم لا يخاف من الموت بل ينتظره ويعده عملية كسائر عمليات الطبيعة"(حلمي مطر الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها ).  هكذا نظرت الابيقورية إلى الموت باعتباره عبورا ليس إلا ومسألة طبيعية لا تدعو للقلق والفزع. فالموت حمال أوجه متعددة ومختلفة يحس به الحكيم في قلب الحياة ذاتها. فالموت دائرته أوسع مما يتخيله العامة من الناس. فالموت بالنسبة للحكيم يعني كل ماينتمي الى مجال اللاعودة .فكم من أمورنا الشخصية واصدقائنا والأماكن التي قضينا فيها أمتع الأوقات وأتعسها ادركها الموت ودخلت إلى مجال اللاعودة وليس لنا آمل في وجودها ذات يوم.  فبمجرد التفكير فيها أو الحنين إليها يمنعاننا من العيش بشكل سعيد ومطمئن.  فالحنين والرجاء كوابح تمنع الوجود الإنساني من السعادة والطمأنينة. وهذا يفترض حسب الرواقية التوقف عن العيش فيهما لأن لا وجود حقيقي لهما كما يقول اوريل في الأفكار " لا تدع أبداً صورة حياتك الكاملة تسبب لك الاضطراب، لا تفكر بكل الأمور المزعجة التي قد تكون حدثت، بل اسأل نفسك في كل لحظة حاضرة. ماالذي لا يطاق ولا يحتمل في هذا الحدث؟ تذكر عنذئذ أن لا الماضي ولا المستقبل هما ما يثقلا عليك بل الحاضر. " ويقول سيناك في رسائل إلى لوسوليوس " يجب التخلص من هذين الشيئين : الخوف من المستقبل وذكرى المتاعب القديمة. لأن هذه الأخيرة لم تعد تعنيني بينما لا يعنيني المستقبل. " ( بير هادو القلعة الداخلية ) فالرواقية تدعونا إلى التصالح مع ما هو كائن مع الحاضر كما هو متجاوزين آمالنا أو ندمنا، انها تدعونا إلى لحظة الطمأنينة هاته وإلى المحافظة عليها. إنها توحي لنا بتغير رغباتنا بدل تغير العالم. وبما ان للحياة بالنسبة للرواقية لها بعد واحد هو الحاضر هذا الأخير نهر هيراقليطي في تقلب مستمر لذلك تقتضي منا الحكمة التعود على عدم التعلق بما يجري وإلا فإننا نجر أنفسنا لأفضع العذابات, ونفوت على أنفسنا تذوق كل لحظة من الحياة كما تستحق. فمن خلال تنقية النفس من التعلق بالماضي والمستقبل نقضي على المخاوف التي أيقظتها نهائية الإنسان فينا. فنجد أنفسنا في لحظة تصالح يختفي فيها الزمن تاركا مكانه لحاضر كثيف و مستمر لا يزعجه شيئا من الماضي أو المستقبل. هذه بالضبط هي الحكمة أي جعل كل الحياة مشابهة لهذه اللحظة، أنذاك يصبح في مقدورنا أن نعيش كإله كما أوصانا أبيكتات في آبدية اللحظة السعيدة المتحررة من كل قلق .فالمدرسة الكلبية هي الأخرى لم تكن مهمة فلسفتها نظرية. حيث جعلت من كل اهتماماتها الفلسفية تدور حول ممارسة الفضيلة. فالفضيلة عند الكلبين نمط عيش أي سلوك وعمل وليست نظراً. وبالتالي فهي ليست في حاجة إلى العلم أو أوامر إلهية، ولكنها في عمقها طبع وتطبع .تصير طبع بالتكرار على ممارسة الفعل"فأنتيسين يرى أنه ليس هناك من سبيل لبلوغ السعادة سوى طريق الفضيلة فهي سلاحنا الضروري الذي من خلاله ننقذ أنفسنا ونحصنها بأسوار من الفضيلة " ( حلمي مطر الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها ). فالامبراطور جوليان تساءل ذات يوم هل الكلبية فلسفة أم نوع من الحياة. ؟.وأخيرا مدرسة الشكاك الذين جعلوا من الشك الخير الأقصى لأن الطمأنينة تتبعه كما تتبع ظلها. فالشكاك لم يبحثوا عن شيء وامنوا أن مايحدث يحدث بالضرورة وليس في استطاعة أحد تجنبه. 
ففي نظر كل هؤولاء فالخوف من الموت يمنعنا من العيش بسعادة وطمأنينة وبالتالي كان هو بؤرة كل التساؤلات الفلسفية.







Share To: