الكاتب مبارك الواعظ يكتب مقالًا تحت عنوان "كرة القدم اخترعت للمتعة  فلاتسيسها"


لا يختلف اثنان اليوم في أن كرة القدم قد أضحت الرياضة الأكثر شعبية بتجاوزها لرياضات كانت إلى وقت قريب تتربع على عرش الرياضة في العالم، فكرة القدم أو رياضة الفقراء كما يسميها البعض لم تعد مجرد لعبة يمارسها 22 رجلا يرتدون سراويل قصيرة بهدف التسلية وقضاء بعض الوقت الممتع،بل أرضية خصبة و ميدان تستثمر فيه أموال طائلة تفوق أحيانا ميزانيات بعض الدول في العالم الثالث.هذا ما جعل منها أمل الفقراء الوحيد الذي سينتشلهم من بؤسهم وواقعهم المرير،فكم من ماسح للأحذياء في أحياء ساوباولو أضحى بين ليلة وضحاها نجما يضرب له ألف حساب في كرة القدم،وكم من بائع للسمك في أسواق كازابلانكا سطع نجمه فجأة فصار يتنقل بين أعرق الأندية،لكن ليصبح ذلك الفقير البائس لاعب كرة قدم مشهور يشار إليه بالبنان ويتنهدن النساء من أجله وتردد الإذاعات اسمه ويرتدي المشجعين قميصه لابد أن تتوفر فيه مجموعة من الخصال وأهمها "الموهبة"، فميسي وقبله الظاهرة رونالدو والأسطورة ماردونا لم يكونوا ليصبحوا أساطير الساحرة المستديرة لولا أنهم امتلكوا الموهبة،وإلا لكانوا مثلي ومثل صاحبنا"ادوارد غاليان"(الموجود في الصورة) الباحث والروائي والصحفي الأروغوياني .
 ولد ادواردو خيرمان ماريا غوميس غاليانو في العاصمة الاروغويانية مونتيفيدو في ربيع عام 1940،عمل منذ شبابه صباغا وجابيا ومراسلا، عاش لسنوات عديدة في المنفى لأسباب سياسية،عاد إلى موطنه في 1985،له مجموعة من الأعمال الأدبية أهمها "الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية"، الكتاب الذي نال بفضله غاليانو شهرة واسعة،"ثلاثية ذاكرة النار"،"أيام وليالي الحب والحرب"،"المرايا"،"أصوات الزمن" وكتاب "كرة القدم بين الشمس والظل".
عشق ادواردو غاليانو كغيره من أبناء الطبقة الكادحة في أمريكا اللاتينية كرة القدم وكان يحلم بأن يصير لاعبا جيدا من طينة دي ستيفانو وبيليه لكنه لم يكن يلعب جيدا إلا في الليل كما قال في مقدمة كتابه كرة القدم بين الشمس والظل: "لقد رغبت مثل جميع الأروغوايانيين في أن أصبح لاعب كرة قدم، وقد كنت ألعب جيدا، كنت رائعا ولكن في الليل فقط في أثناء نومي، أما في النهار فأنا أسوأ قدم متسخة شهدتها ملاعب الأحياء في بلادي".
لما أيقن غاليانو أن حلمه لن يتحقق بقدميه "الخشبيتان" كان عليه إيجاد طريقة أخرى تجعله قريبا من معشوقته، وكانت هذه الطريقة هي الكتابة عنها وعن ملاحمها الأسطورية الخالدة،فألف كتابه الشهير "كرة القدم بين الشمس والظل". رغم أنه لم يكن السباق في الكتابة عن رياضة الفقراء،حيث سبقه إلى ذلك كل من أستاذه ماريو بينيديتي في كتابه "وقتك اليوم حقيقة"،الكتاب الذي أهداه إلى الأسطورة مارادونا،و روبرتو خورخي سانتورو في كتابه "أدب الكرة". لكنه تمكن بفضل اطلاعه الواسع على تاريخ كرة القدم وبفضل أسلوبه الساخر من لفت انتباه القارئ العاشق لكرة القدم فأضحى كتابه واحد من أهم المراجع في تاريخ رياضة الفقراء.  
في كتابه كرة القدم بين الشمس والظل يبدأ غاليانو باستعراض أهم العناصر المؤثرة في كرة القدم ويحاول إعطاء تعريف أو صورة عن كل عنصر من هذه العناصر، بدءا  باللاعب: ابن الحي الشعبي الذي نجا من العمل في المصانع.  الحارس: أو المهرج الذي يتلقى الصفعات المحكوم عليه بمشاهدة كرة القدم من بعيد منتظرا إعدامه رميا بالرصاص بين العوارض الثلاث.  الحكم: أو الجلاد المتكبر الطاغية البغيض الذي يمارس ديكتاتوريته دون معارضة ممكنة. لينتقل بعدها إلى سرد أبرز الأحداث والملاحم الخالدة في ذاكرة كرة القدم منذ ظهورها لأول مرة مع الصينيين القدماء، إلى أن طورها الإنجليز و وضعوا لها قواعد في إحدى حانات لندن خريف عام 1868.
وعلى اعتبار أن أهم حدث تشهده رياضة الفقراء هو بطولة كأس العالم،فإن إبن منتيفيديو كان حريصا على استعراض تلك البطولات بكل أفراحها وأتراحها، بدءا بأول بطولة أقيمت في موطنه سنة 1930وانتهت بتتويج البلد المضيف، ثم بطولة 1934 التي نظمتها ايطاليا الفاشية و فازت بها بعد أن هدد  موسوليني اللاعبين بالموت في حالة خسارتهم للبطولة، وصولا إلى أخر بطولة في القرن العشرين.كما أنه كشف النقاب عن أهم اللاعبين الذين برزوا في مختلف البطولات وتربعوا على عرش كرة القدم ولقبوا بأسيادها من أمثال زيكو،بيليه،باجيو،ماردونا...
إن كانت كرة القدم بالنسبة للكثير منا مجرد رياضة لا أقل وأكثر فإنها بالنسبة لكاتب يساري مثل ادواردو غاليانو حمل في قلبه ألم أمة عانت لسنوات طويلة  من ويلات الحروب والاستبداد هي صراع دائم بين الخير والشر بين المجد والاستغلال بين الحب والبؤس بين الحرية والخوف.
 رحل غاليانو في عام 2015 بعد صراع طويل مع مرض السرطان تاركا وراءه إرثا أدبيا ضخما لم نكن لننهل من معينه لو تحقق حلمه وصار لاعب كرة قدم.






Share To: