الكاتبة السودانية شوق عبدالعظيم تكتب نصًا تحت عنوان "لطالما رأيتُكَ منفى" 


لطالما رأيتُكَ منفى أحتسِبُ السنين على أحَرٍ من الجمر لكي أُغَادِر.
لطالما حَلِمتُ برؤيتكَ عن بُعْد ،عبر نافذةٍ صغيرة تَحجِبُ الرؤية عنك بوضوح فأجِدُكَ متضائِلًا متلاشياً فتختفي.
أتنفْسُ الصعدَاءَ بأني اليومَ حُرة بلا قِيُوْد.
قِيُوْدٍ حُمِلت على عاتِقي منذُ الصغِر ،تعليمٌ لا يَؤلُ مستقبلي بشيء ،وضعٌ اِقتصاديٌّ يَضْمحِلُ بينَ الفِنية والأخرى ،أمورٌ لا يَكَادُ عقلِي الصغير أن يَستوعِبها ،جُلّ ما أُرِيّدهُ هو الخلاص ،المكوث بمكانٍ بهِ سُبْل الحياةِ الوافّرة ،لا ينقُصها شيء.
إلى أن رأيتَ الشوارع بالجموعِ تمتلي
والحناجرَ بالأصواتِ تعتلي
شبابٌ عنفوانٌ جسور
وطفلٌ بمقتبلِ الربيع
رجلٌ كهلٌ إلتهمهُ الكِبْر
وامرأة ثكلى تصرخُ نداءً
لأجلِ الوطن
لأجلِ الفقيد
فلذة كبدٍ
رأتهُ شهيدًا
زُفَ بالدماءِ
عوضاً عن الحرير

ظلَّ هذا المشهدُ في رأسي ثمّة شيءٌ ما بداخلي تحرك، شعورٌ جامحٌ يغمرني تقدمتُ بخطواتي إلى المنزل أحملُ حقيبتي وجوازَ سفري الآن، الآن حانت اللحظة للخروج من هنا، باتت هذهِ الأرض دمارًا لا تصلِحُ البتة، طيفُ الإنقلاب يلّوح بالأفق وهذا يعني بقائي دهرًا آخر.
خرجتُ مسرعاً إلى أقرب عربة توصيل.
مرةً أخرى وجدتُ الشوارعَ ممتلئة بالجمعِ الغفير وسمعتُ صوتَ النشيد "هذهِ الأرضُ لنا، فليعش سوداننا..."
تنحى سائِقُ العربة جانباً وخرج، سخطتُ صارخاً : توقف إلى أين أنت ذاهب؟
=اُلبي نداء الوطن.
-هذا الوطن لا يغني ولا يسمنُ من جوع، سأدفعُ لكَ أجرةَ شهرين.
فتحَ طفلٌ بابَ العربةِ مبتسماً
:ياو ياو يا دسيس الليلة شنو؟
قضبتُ وجهي أكمل حديثه :المليونية يعني الناس كميّة.
جرني من يدي كأمٍ تقود طفلها وصار يهتف.
اصطف الجميع
بناتٍ وفتية
نساءً ورجال
اُمسِكتْ الأيادي، توحدت الأصوات من كل النواحي، وتجسدت الأرواح لا فرق بينهم طالبٌ وعاملٌ وغفير.
علت أصواتُ الرصاص وتساقطت أجسادٌ تبتسمُ وكأنها ترى فجر الخلاص، أعينٌ تبكي وغصةٌ بالحلقِ باقية.
غازٌ مسيلٌ للدموع يملئُ الأرجاء ولا يزالُ الصغير ممسكاً بيدي : أمسك هاك شم النيم عساكر ما بترحم.
مضت ساعةٌ أو أكثر بين الكرِ والفر ولا يزالُ السؤال بذهني.
لما يخرج الجميع؟
أليس الهربُ حلًا أو البقاء بالبيوت؟

الثورة ثورة شعب
السلطة سلطة شعب
العسكر للثكنات
والشارع للمكنات

صوتُ هُتاف
ضد العسكر ليس إلا
بأيِّ لونٍ وأيِّ حزبٍ وأيِّ ملِّة
لأن حُكم الفردِ ظُلَمٌ
لأن حُكم الفردِ ذلِّة
لأن العدلَ في الجَمْعِ سنة

هتافٌ آخر
ومن زنازين العساكر
نبني مجدك مهرجانك

وجدتني أهتف وكأنني أخرجُ بكل يوم، تقدمتُ أمامهم وبقربي ذاك الصغير، حملنا الحجارة وغنينا ذات النشيد وضد العساكرِ ثُرنا ومجدّنا الشهيد.
طوال تلكَ الليلة بِتنا نحرسُ التروس نمدُ المؤن، نتناوبُ الأدوار.
بزغَ خَيْطُ الفجر وقد فقدنا نصفَ الحاضرين، لم ننكسر وبسقوطِ كل واحدٍ منّا علت الحناجرُ بالزغاريد ، قوّينا بعضنا وقلنا أن النصرَ واعدٌ قريب، قبل الوصول إلى القصر قبّلتُ ذلك الطفل الرشيد أخبرتهُ بأني إليهِ مدين وأن الشعورَ بمعاناة البلاد كانَ درساً صَعْبَ عقلي إليهِ أن يستجيب، كنّا نمضي بالطريق إلى أن وقفنا أمام القصر تبسمَ قائلًا : كشف هناك هداكَ العلم وقع.
توجهت أنظاري إلى ذلك الرجل يحملُ علمَ السودان فوق القصر وبخلفهِ الشمس "أتى فجر الخلاص" هكذا قلت لنفسي.
سادَ صمتٌ طويلٌ قبلَ أن يقطعَ صوتُ البكاءِ سكون اللحظة.
علا الهتافُ اللهُ أكبر

كان هذا الحلمُ صعباً
وها قد ولاَ الظلمُ عنه
جاءَ الخيرُ يمشي من بعد عناءٍ طويل.
وبين ليلة وضحاها تبدلَ حلمي، وبات الشعبُ قضيتي وإني هنا باقٍ بهذهِ الأرض فداءً لها

"الذي يجبرنا أن نزغرد في جنازات شهدائنا هو ذلك الذي قتلهم ، نزغرد حتى لا نجعله يحسّ لحظة أنه هزمنا ، وإن عشنا سأذكرك أننا سنبكي كثيرا بعد أن نتحرر"





Share To: