الطفولة و معيقات التواصل
هل نهتم بالطفل فعلا، كإنسان في حد ذاته له حقوق ومتطلبات؟
إعداد الباحث : محمد الصفى
لا شك أن واقع الطفولة يطرح تفاوتات على مستوى التناول، و شروطا تنموية، و إطارات ثقافية و تربوية تنسجم و تتلائم مع نموه، و هذا ما يجعلنا نطرح مجموعة من الأسئلة للوقوف على بعض التجليات التي تشوب هذا التناول، من أهمها، عن أية طفولة نتحدث؟ و هل شروط تنمية و تطوير هذه الطفولة متحققة و متوفرة نسبيا؟ و هل نهتم بالطفل فعلا، كإنسان في حد ذاته له حقوق ومتطلبات و عليه واجبات من خلال عملية التواصل؟ و ما هي الاضطرابات و المشاكل التي تعيق هذا التواصل و النمو الفكري و التربوي و الأخلاقي لدى الطفل ؟
من خلال السؤال الأول يمكننا أن نقول أننا غالبا ما نتحدث في تناولاتنا للطفولة، عن طفولة معينة، طفولة منتقاة بعناية و حرص شديدين، خاصة بالقنوات الإعلامية، " برامج الأطفال - تغطيات لأنشطة، حوارات، برلمان الطفل .... " منتقاة اقتصاديا و اجتماعيا و حتى معرفيا، طفولة الأسر المترفة أو الميسورة، طفولة تعيش أوضاعا خاصة في مجتمع غير متجانس، و هنا أشير أننا بلا شك نقصي طفولة الهامش، طفولة العالم القروي، طفولة الكاريانات، طفولة الشارع، طفولة اليتم و الحرمان ...و حين نعتمد درجات العلم لتزكية هذا الاختيار، نؤدلجه بشكل مشوه، إذ نستقي منه التعميم، فلا نرى التشابه حيث الاختلاف و الانسجام حيث التناقض و المساواة حيث التفاوت، مع العلم أن العلم لا يعمم النتائج، إلا على الظواهر التي تم التأكد منها، على أنها متشابهة أو متقاربة جدا، و هذا ما جعل ماركس يقول، إن التعميم جهل، هكذا أيها الإخوة لا نكون في تفكيرنا قد أجحفنا حق العلم و حق الطفولة، و ذلك بخلق طفولة وهمية مفبركة كما في وسائل الإعلام و الإشهار، بينما المطلوب التخصص و التحديد و الدقة، مدعمين ذلك بالبحوث الميدانية النابعة من صميم الواقع الفعلي.
فيما السؤال الثاني أريد من خلاله التركيز على الطفولة المبكرة، من الولادة إلى ست سنوات، و الكشف عن أهم العوائق و المعوقات التي يمكن أن تواجهها، بغية التغلب عليها و تجاوزها و التحرر منها لتحقيق تنمية و نمو متوازنين، كأن شروطها الحياتية السوسيواقتصادية و اجتماعية قد اكتملت و توفرت في معظمها، إذن لابد أن نرسي لها أرضية، فالبذور لا يجازف الفلاح برميها في أي مكان شاء، بل يختار لها الموضع و التربة إلى جانب الطقس و الأسمدة و المناسبة و غير ذلك، أما هذه الطفولة التي نتحدث عنها فهناك أعداد هائلة منها لم يخطط لهم بالعناية اللازمة من قبل آبائهم، إذ يكفي أن يقول أريد الزواج و بعدها أريد الأبناء، و عندما تسأله لم تريد الأبناء، يقول لك لتصبح هناك حركية في المنزل و لكي يحملوا اسمي من بعدي، و بهذا الوعي الساذج لا يحقق الفرد سوى اكتفاءه الذاتي جنسيا، فيما الأطفال فرزهم على الله، فأي طفولة نتحدث عنها إذن، هل فكرنا أولا في صحة المجتمع و علته و صحة الفرد و علته، حتى يتيسر للطفولة الانبثاق في محيط و مجال سليمين، و أعني هنا الصحة النفسية و الصحة المجتمعية.
لقد تحدث فرويد سابقا عن الصحة النفسية اعتبار أن تجاوز الفرد لعقدة أوديب يضمن درجة لابأس بها من التوازن النفسي و إلا ظلت رغبات الطفل فيه تنازع مطالبه و هو راشد، بمعنى إذا كان قد أشبع رغباته الطفولية في وقتها و تغلب عليها مطورا اتجاها تناسليا ناضجا فيما بعد، فإنه لا شك لن يرث من المعوقات الشاذة ما يعكسه سلبا على أطفاله لاحقا . أما كارل ماركس فقد رأى المسألة من زاوية سوسيواقتصادية، فاستعمل مفهوم الاستلاب أو الاغتراب الذي مؤداه أن الإنسان لا يرى نفسه ذاتا لأفعاله و أ‘ماله الخاصة و لا شخصا يفكر و يشعر و يحب، بل يرى نفسه فقط في الأشياء التي صاغها و أوجدها موضوعا للمظاهر السطحية لقواه و قدراته، و لا اتصال له بذاته إلا بقدر ما يسلم نفسه للأشياء التي أنتجها هو، بمعنى عدم تحقيق ذاته كإنسان له نشاط حر وواع. و سوف تصبح هذه الحالة الشعورية حالة الاغتراب، قاتلة و مدمرة حين تبلغ قمتها لدى الفرد، إن المجتمع المريض بالاغتراب مجتمع ينتج و يصنع أناسا كلواحق للأدوات و الألات للإنتاج فقط، و هذا ما كشفت عنه الانتقادات الموجهة للراسمالية الاحتكارية و الموحشة، كما توجه اليوم للعولمة، فهذا المجتمع المريض هو الذي يقوم بتربية و رعاية أطفاله تربية غير متوازنة نفسيا مما يجعلهم يعيشون الاغتراب، و هو الأمر الذي يخلق لنا معيقات لدى هؤلاء الأطفال فكيف الحديث عن طفولة في هذا الوضع و من الذي يحتاج للعلاج أهي الطفلوة أولا أم الأفراد أم المجتمع ككل؟
إن اقتناعنا و بكل موضوعية يفرض علينا ألا نتحدث عن الطفولة عاطفيا و لا حتى بالتعميم المضلل، كون الطفولة تتأثر بمجموعة عوامل منها أمية الوالدين و الفقر و تضخم أفراد الأسرة الواحدة، نقص العناية الصحية، النظافة، صعوبة التمدرس و إكراهاته، السكن غير اللائق، غياب التخطيط الأسري، التربية الجنسية، الحقوق و الواجبات، الشغل، ... كل هذا يبين أن المسألة أعقد مما نتخيل، و أنها بنيوية و مركبة تركيبا يصعب أحيانا تفكيكه و تيسيره، كونها ظاهرة معزولة مكثفة بذاتها، ليبقى المقترح الوجيه هو خلق حلقات دراسية كل في تخصصها المعين مع اعتماد أبحاث ميدانية جادة، بعيدا عن كل ما هو نظري أو أكاديمي، أو ما يمكن أن يخلق تصورا متشائما.
و عند حديثنا عن الطفل كذات و مدى التعامل معها في هذا الإطار، فإننا نلح على ضرورة التمييز بين تناول الطفل كغاية في ذاته، كإنسان، بكل مؤهلاته و قدراته و حقوقه و طموحاته و رغباته، و لن يتأتى هذا إلا بالالتزام عند كل واحد منا، بتطبيق ما يعيه علميا و أخلاقيا و معرفيا في حياته اليومية على أطفاله، أو إخوته أو جيرانه أو تلامذته، إن تمييز هذا عن تناول الطفل كمجرد موضوع، كشيء نتلهى به دون محاولة الكشف عن قدراتنا في فهمه وتفسيره، هو أنانية مبالغ فيها منا، إن الطفل كموضوع علمي يرجع بالأساس إلى معطيات يمكن ضبطها فيما يلي:
1- انتشار المدارس و دور الحضانة و الرياض الخاصة و هذا معناه أنه بعد الأسرة ظهرت مؤسسات عدة بدأت تتدخل في تنشئة الطفل و تربيته، و قد توسع ذلك بتعميم التعليم و إجباريته .
2 - تغير العائلة بتحولها لأسرة نووية، فتقلصت العالقات بين الجيران و الأقارب و لم يعد للجد أو الجدة أو العام أو الخالة أو ... أي تدخل في تربية الطفل، ليتحول دور تربية الأطفال للأم بمفردها، و لا شك أيضا أن وسائل الإعلام و التواصل الالكترونية الحديثة، و بالأخص القنوات التلفزية و مواقع االشبكة العنكبوتية و ما تقدمه من أفلام و ألعاب تحمل في طياتها صورا من الخيال الواسع و كذا تساهم بعدها في الانسلاخ عن القيم و الأخلاق و أخرى تدعو للعنف.
3- انتشار الدراسات و البحوث السيكولوجية و السوسيولوجية و الاجتماعية و التربوية في شكل كتب و مجلات و مقالات في الجرائد وعبر المواقع الالكترونية، و كلها تغلغلت في علاقات الطفل بغيره دون ذاته كإنسان. إلا أن هذا التحويل ، تحويل الطفل إلى موضوع لا يجب أن يسقطنا كما يقول محمد جسوس في اختزاله سوسيولوجيا باعتباره مجرد أداة مبرمجة حسب نظام معلوماتي معين و محدد في السلوك و الأعمال و الهياكل، كما لا يجب اختزاله تربويا باعتباره أداة أو وعاء يمكن أن يختزن أو يحتوي أي شيء نطرحه فيه، و باعتباره مفعولا به و ليس فاعلا خاصة إذا تم تحويل بعض الأطروحات التربوية إلى حلول سحرية تسمح بتغيير الشخصية.
و عند وقوفنا على مسألة الاضرابات و المشاكل التي تعيق عملية التواصل و ربطها بما هو ثقافي و اجتماعي و تربوي، فلا بد لنا من استحضار دراسات فرويد باعتماد ما هو سيكولوجي بل لا بد أن نشير للمستوى المعرفي و القيمي و النماذج السلوكية، و هذا يستدعي تناول ثقافة الأم لكونها المربية الأولى للطفل في مجتمعنا، و قد بينت الدراسات التي عالجت هذه المسألة بأن الأوضاع السوسيواقتصادية أفرزت دور مخالف لما كانت عليه في السابق و هو ما استقطب انتباه التيارات السياسية و الايديولوجية و المعرفية، و أصبحت تتصارع حوله، و يمكن الإشارة إلى مدونة الأسرة " مدونة الأحوال الشخصية / سابقا" و إلى إدماج المرأة في الحياة العامة كمثال على ذلك.
فالأسرة بما فيها المرأة - الأم - لم تعد محاطة بتلك القدسية كما كانت عليه، بل أصبحت هدفا للدراسات و النقد و التخطيط و البرمجة و التقويم ... و من تم دخلت الأم مجال عدة منافسات، منها منافسة الشغل، إذ قلص من سلطة الأب و الأم معها، منافسة المدرسة" الروض/ الحضانة " منافسة وسائل الاتصال و التواصل و الإعلام " قنوات تلفزي/ مواقع الكترونية ... " ثم منافسة الأصدقاء في الشارع . كل هذا أدى إلى تفكك النموذج العتيق و التقليدي للأسرة، لا في الانتاج الاقتصادي و لا في تنشئة الأطفال، و رغم ذلك نجد الأم هي التي تقضي معظم أوقاتها مع الطفل حيث تلقنه كيف يفكر و كيف يحس و كيف يتعامل، كما تلقنه المواقف و التصورات و حتى التخيل، و لكن كما بين محمد جسوس أن هذا النمط السوسيواقتصادي الجديد كشف نماذج معينة من المرأة - الأم- الولية " لا حول و لا قوة لها " / الغولة " المتسلطة و المتجبرة" / المنيكة " المداهمة و النفعية " / الحادكة " الفاعلة و النشيطة " / الجنية " التي أبانت عن قوتها و عظمتها " ، و لا شك أن هذه الأمهات سينقلن طرق تفكيرهن و سلوكاتهن إلأى أطفالهن و هم بدورهم سيعيدون إنتاج ذلك بشكل أو آخر . و قد شدد محمد جسوس على ضرورة تحرير المرأة من الضغوط المسيطرة، و هذا التحرر لا يعني الخروج عن الأخلاق الرفيعة، و لا يعني الفوضى الجنسية أو الإباحية، بل التحرر من أشكال السيطرة اللامعقولة و اللاضرورية لبناء شخصيات متوازنة نفسيا و اجتماعيا يسهل التواصل معها على كل المستويات .
ليبقى السؤال الأخير و الذي نهدف من وراءه الوقوف عند بعض المعوقات التي تحول دون نمو شخصية الطفل بشكل سليم و ذلك بالتمييز بين ما هو بيولوجي " غدد، غرائز، خلايا، أعضاء.. " و ما هو نفسي خاص بالجهاز النفسي للطفل و له علاقة بالخبرات النفسية مثل الصدمات و الأزمات و العقد النفسية، و ما هو اجتماعي مرتبط بالأسرة و المؤسسة و الوسط، حيث يمارس القهر و التسلط أو التهميش والإقصاء و غير ذلك، إلا أن البحوث المختصة في الولايات المتحدة الأمريكية حددت المعوقات في شكل اضطرابات و مشاكل تواجه الطفل من قبيل، مشكلات التخلف العقلي، مشكلات الاضطراب السلوكي، مشكلات القلق و قلق الانفصال، اضطرابات سلوك الأكل، اللوازم الحركية، اضطرابات الإخراج، اضطرابات الكلام و اللغة، و أخرى مثل دهان الأطفال، و من هذا المنطلق فقد تم اعتماد أساليب علاجية كالأاساليب السلوكية باعتماد نظريات التعلم و أساليب مدرسة التحليل السلوكي، الرامي لتعديل البيئة و التحكم في المتبرحات الخارجية لضبط السلوك، أو أساليب العلاج الذهني أو المعرفي، المعتمد على تعديل الأساليب الخاطئة في التفكير و التدريب على حل المشكلات مع الإلمام التربوية و التعليمي بالمشكلات التي يتعرض لها الطفل، كما هناك الأساليب الاجتماعية من خلال تدريب المهارات الاجتماعية و التفاعل الاجتماعي الجيد من خلال ملاحظة النماذج السلوكية و القدرة على الثقة في النفس، و قد اعتمد العلاج على وسائل منها التدعيم الايجابي و السلبي و على العقاب اللفظي و البدني ثم التجاهل.
المراجع:
- مجلة الدراسات النفسية و التربوية عدد 8/9/1988
- ما وراء الأوهام لإريش تروم " ترجمة صلاح حاتم
- العلاج السلوكي للطفل " عالم المعرفة عدد 180/ 1993
Post A Comment: