الكاتب المصري / محمد السعيد يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "موعد مع البحر"



 

دعاني السيد أحمد فهمي علي وجبة عشاء في منزله،وكنت مترددا في قبول الدعوة نظراً لظروف عملي ،إلا أنني قبلت خوفاً من أن يساء فهمى فأتهم بأني إنعزالي خجول وغير إجتماعي مما يعوق خططي المستقبلية في الإندماج والتكيف مع الناس . وكان من دواعي سروري  إلحاح أحمد فهمي علي، وهو أحد المعارف القديمة  لدرجة جعلتني أعتقد أنني المدعو الوحيد في دعوة العشاء تلك، وأنها ستعد خصيصاً لي وعلي شرفي! . كنت أتذكر جيداً يوم الدعوة، وقد توافق مع يوم إجازتي الشهرية، حيث أني أعمل بنظام الورادي في إحدى الشركات الأجنبية. ومن آن لآخر كنت أتذكر بإنفعال شديد حرارة المقابلة، ويد جاري القديم وهي تضغط علي يدي، إبتسامته وتحيته وهو يودعني بحرارة علي مرأى ومسمع من المارة والمتطفلين في قلب ميدان الجلاء . كنت أقول لأمي :أحس بأن ثمة شيء كبير ينتظرني، مازال بالحياة حب وإخلاص يا أمي.. مازالت الناس تتذكرني! . وكانت تقول  : الحياة جميلة يا بني .. قلت لك أكثر من مرة لا تعزل نفسك، الناس تحبك. الحياة جميلة لمن يراها جميلة. 

إلي أن جاء اليوم الموعود وذهبت للعنوان الذي أعطاه لي أثناء تلك المقابلة. فتح باب شقته ودخلت، فوجدت سحب كثيفة من دخان السجائر وموسيقى غربية صاخبة والمدعون يضحكون بصوت مرتفع  جداً  . لم أتبينهم في البداية لكن عندما دخلت قلب الشقة عرفتهم أو معظمهم، إما جيران أو أصدقاء قدامي أو زملاء عمل أو دراسة، وإن لم يعد لي بهم أي صلة أو علاقة مباشرة إلا حنينا خفيا . أما صاحب الحفل فقد كان مشغولاً بمساعدة  الخدم في إعداد المائدة، وعندما رآني أبتسم في وجهي بسرعة ثم إنشغل مع الخدم مرة أخرى . وقفت وحيداً بجانب مجموعة من ثلاثة أفراد تقف بجانبهم سيدة تلبس تايير أزرق وتضع وردة حمراء علي صدرها. لم تفارق إبتسامتها الهادئة وجهها الأسمر ، وهي تلاحقني بنظراتها، وكأنها تعرفني، أما من معها فلم يتوقفوا عن الكلام والضحك. كان من بين الضيوف أيضاً السيد حسام زيدان المحاسب المعروف برازانته وجديته في العمل ، وإن لم تخلوا الحكاية من زجاجة بيرة أو سيجارة. لكن كان الجميع يتودد له ويرغب في الإقتراب منه لثقافته وخفة ظله . لم أسمع ما يقول لكن كان يبدو الإهتمام علي وجه مستمعيه. في الجهة المقابلة وقفت الآنسة رانيا شكري المرشدة السياحية والمترجمة المشهورة وحولها مجموعة كبيرة من شباب المعجبين. تبدو جميلة حقا ببنطالها الجينز المحدد لجسدها الرشيق الجذاب وشعرها الفاحم ، خلف نظرات متسائلة دائماً عما هو قادم؟ ويعرف في تقديري معظم الضيوف، وخاصة من عبر عمرهم الأربعين سر بقائها عزباء حتي الآن،! ربما لأن معظهم قد عرض عليها في سن مبكرة الزواج وكانت ترفض كعادتها آنذاك، ليتحول مسار حياة طالب القرب، في الحال، ويبحث عن شريكة حياة أخري وحياة أخري بعد تلقيه صدمة عاطفية من النوع الموجع المؤثر . وربما تكون تلك المحبة والشفقة التي في العيون مبعثها أنها صاحبة الفضل فيما وصل إليه معظمهم من نجاح أو فشل !، فلولا جمالها ما أحبها أحد، و لولا إحساسها به ما تمنعت وتعالت . لكن ألم يكن ينقصها بعض العقل؟ جعلني التفكير في الآنسة رانيا أتكيف قليلاً مع جو الحفلة، وشعرت أن الجميع مشغولاً وأنني لست محط أنظار أحد أو محور إهتمام أحد وأن العشاء لم يكن أبدا لي وحدي أو علي شرفي . تقدمت بشجاعة ناحية الثلاجة الموجودة في المطبخ في نهاية الصالة ، وعندما وضعت يدي علي المقبض وجدت يدا رفيعة بيضاء تسبقني لتفتح معتذرة :أسفة جداً. تأملت اليد ووجه صاحبة اليد المدور قبل أن أنطق مسحورا :لا داعي للإعتذار أنستي .. تفضلي . إبتسمت رانيا إبتسامة إعجاب بريئة جداً ، وكأنها قرأت مابين خطوط وجهي قراءة خبير. حدست سريعاً أنها تعرف جيداً كيف يفكر الناس فيها، كما تعرف علي ما يبدو فداحة أخطائها القديمة، وتدرك علي نحو ما خطورة ما آلت إليه حياتها من وحدة ومخاوف وظنون لكنها، مع ذلك، لم تيأس، وهذا ما أعجبني ! دقيقة من الصمت المعبر مرت يبست خلالها إبتسامتها علي وجهها، وانحسرت في مكان بعيد بارد في أعماق الروح، بعد إذنك... انسحبت رانيا بأدب من المشهد المزدحم بالمارة والمتابعين بعد أن رفعت قليلاً علبة البيبسي بالقرب من صدرها وهي تنظر إلي المجهول أسفل منها في خجل وخوف . شعرت بعاطفة عجيبة نحوها لم أجربها من قبل، كأن صوتها يأتيني من أعماق بئر ضائع في صحراء  جدباء. لم تكن لي بها أي علاقة سابقة مباشرة كانت أو غير مباشرة، كنت أراها كثيراً في النوادي والفنادق وعالم الأعمال، وأسمع سيرتها علي ألسنة الكبار والصغار معا. وعرفت، فيما بعد، أن عشاقها كثيرون لكنها كانت ترفضهم جميعاً لسبب ما لم يكن يعلمه أحدا. سمعت مثلاً أنها أحبت طيارا قابلته مرة صدفة علي كورنيش الإسكندرية ووعدها بالزواج إلا أنه هاجر إلي أمريكا ولم يعد!. قصص وحكايات كثيرة كنت أسمعها. لكن هذة أول مرة أراها عن قرب. خرجت من المطبخ وأنا حائر ولا أحس حقيقة بالحفل،اقتربت تلقائياً من المكان الذي كنت أقف فيه فوجدت السيدة ذات التايير الأزرق تنظر إلي مرة أخرى وهي تبتسم، أعادتني إبتسامة تلك السيدة إلى وعي تدريجياً وأحدثت لي شبه توازن داخلي ،فكرت بعدها في محادثتها إلا أنني تسألت في مرارة عن طبيعة العلاقة التي تربطها بالأشخاص الثلاثة الذين يقفون معها؟ وعن سر جرائتها المبالغ فيها ؟ثم وجدت نفسي أستغرب الوردة الحمراء ولون تاييرها الأزرق الفاقع. بعدها عدلت عن الفكرة على الرغم من جمال ورقة بشرتها ! . كانت المائدة في منتصف الصالة قد أعدت بشكل شبه نهائي .. ديك رومي مشوي كبير وضع في المنتصف وحوله وضعت سلاطات وأطباق وسكاكين وشواك وملاعق . وقف الطاهي وسط المائدة ببابيون أسود علي قميص أبيض وبنطال أسود منتظراً إشارة البداية، حتي وقف السيد أحمد فهمي علي رأس المائدة وطالب الحضور بالإقتراب ، فتجمع المدعوين حوله . قال : مساء الخير.. أنا سعيد جداً بحضوركم جميعاً، ومنكم طبعاً من لا يعرف السبب الحقيقي وراء هذه الدعوة، ولهذا أعلن لكم جميعاً أن الدعوة بفضل ترقيتي إلى مدير عام في الشركة التي أعمل بها. صفق الجميع علي الفور فيما ارتفع صفير البعض الآخر، وسقطت التهاني كالورود علي السيد أحمد فهمي.... مبارك عليك... إلى الأمام يا أحمد.. هيا.. هيا... من نجاح إلي نجاح يا صديقي . ثم قال وهو يشير لهم بيده : شكراً لكم جميعاً.. الآن تفضلوا العشاء.  تدافع الضيوف بشكل غريب أمام المائدة فقد كانت الصالة مكتظة بالحضور، حاولت الإقتراب فدفعني كتف أحدهم إلى الوراء . لم أكن جائعا لكن سبباً غامضا جعلني أفعل ذلك علي الرغم من خجلي المعتاد . وعند رجوعي للوراء وجدت رانيا جانبي تبتسم في وجهي وتشجعني بإشارة من رأسها أن أحاول مرة أخرى. عيناها السودوان يلمعان في ثقة هذه المرة، تشجعت فعلاً لكنني أشرت إليها أن نعود للوراء قليلاً وننتظر. لم أكن أصدق نفسي أنها تسير معي وأننا نذهب بعيداً فعلاً عن المائدة. إقتربنا من نافذة الصالة الفاميه والتي تطل علي الشارع الرئيس والذي يطل بدوره في ناحيته الجانبية علي البحر. تبدت لنا الأمسية إستثنائية صافية ومرصعة بنجوم يقظة لامعة. نسمة باردة منعشة سرت  بجسدينا . إعتبرت في لحظة سرية غامضة أنني أودع حياة العزوبية إلى الأبد. أما رانيا فقد كانت تضحك وهي تقول في خجل :بجد أنا مش فاهمه حاجة!. قلت لها وقد غمرتني حماسة مفاجئة : أنا أحبك، هل تقبلين الزواج بي؟

قالت وهي تداري فرحتها : هكذا بدون سابق معرفة...أنت بدون شك مجنون. 

ثم تشجعت مرة ثانية وقلت لها :ما رأيك لو تركنا هؤلاء المفاجيع، ونزلنا نتمشي علي البحر؟ سنكون أكثر حرية بالتأكيد، مش كده؟ 

-مش عارفه 

فتحت باب الشقة وهي جانبي وقد ازدادت حمرة وجهها ثم فتحت ذراعي كما يفعل الحراس و قلت لها :تفضلي يا  أميرتي. 

-شكراً سمو الأمير.



الكاتب المصري / محمد السعيد يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "موعد مع البحر"



Share To: