الكاتب المصري / أحمد عيسى يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "يعفور.. أسعد الحمير"



 

الحمار حيوان وديع أليف، صابر جَلْد متأنٍ حليم، منه أنواع صُلبة الأعواد، وافرة العضلات، قوية البنيات، تصلح لحمل الأثقال، وأخرى لينة الأعطاف، واطئة الظهور والصَّهوات، متدفقة القيادة والليان، ومنها ما هو سريع السير شديد العدو، قد يضاهي في سيره بعض النغال والبغال والبراذين والجِمال.

"أبوصابر"، و"أم جحش" حماران زوجان ذكرٌ وأُنثاه الأتان، كانا يعملان في خدمة سيدهما الفلاح بإحدى قرى مصر النائية، وفي حظيرة صغيرة ملتحفة بالسماء في ليلةِ صيفٍ قمراء، حلا للحمارين أن يتسامرا، بعد عناء النهار بالكدّ في لفح الشمس، ووهج الحرّ، حملاً للسباخ والسَّمَاد والتراب، ونقلاً للحبوب والغلال، والأمتعة والأثاث، أو دوراناً بالساقية لري الأرض وسقي الزرع والحرث. 

أم جحش: لقد سَخِرتْ مُهْرَةٌ مني اليوم فعابت عليَّ عُلو صوتي إذ ناديتك! 

أبوصابر: لا تغضبي شقيقة النفس، وتوأم الروح، القبيح من كان بمَلْكه أن يهمس بصوته أو يخفض نبرته فلم يفعل، وقد منحنا الله مع قبح أصواتنا قدرة على رؤية ما لا يراه غيرنا من الحيوانات الكثيرة ومنها الخيول.

إن أصوات بني جنسنا من الحمير، وإن كانت عالية بغيضة ذا نَكَارة وبشاعة، إلا أنها أداة خلقها الله لنا وركبها فينا لنستجير بها عند الخوف، وينادي بعضنا بها على بعض للغزل والحُبّ، وأخيراً ننبه بها صديقنا الإنسان حينما نرمق بأعيننا الشيطان، أو يلوح لنا طالحٌ من الجانّ.

كنتُ يوم الجُمُعة الماضية في الغيط مع صاحبي، وقد ملأ فوقي غبيطاً من حصاد الحقل وجَناه، فلمَّا أفرغه في مخزن الدار، استقلّ ظهري متوجهاً إلى جامع القرية الكبير، وبعد أن ربطني بجوار إحدى الأشجار القريبة من المسجد لأداء صلاة الجُمُعة سمعتُ الخطيب بعدها يقول:

جاء في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكاً، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِن الشَّيْطَانِ؛ فإنهُ رَأَى شَيْطَاناً»[1]. 

متفق عليه: رواه البخاري (3058)، ومسلم (4908). 

أم جحش: وماذا تقول فيما عَيّرتني به فرسٌ من غباءٍ وعِناد؟

أبوصابر: التصقت بالحمير شهرة العناد، وهي شائعة ليس لها ظل من حقيقة أو برهان؛ لأننا نستعمل حدْسنا الطبيعي بخلق الله لنا درءاً للمخاطر واستبقاءً للحياة، فليس من السهل إرغامنا أو تهديدنا نحن معشر الحمير على فعل شيء ما ضد رغبتنا قهراً وقسراً، ما دمنا نتوجس من هذا الشيء كبير المآزق ومغبّة التهور والخطر.

وقد وردت في الحِكَم الصينية قصة معبرة عن تأنّي الحمار؛ لا عناده وبلادته، بإزاء تهور البشر والخيول؛ حيث يحكى أنه كان هناك مَلِكٌ يهوَى قطع الجبال استطلاعاً واستشرافاً للتنزه والتجوال، فكان يخصص في كل شهر يوماً يقضي فيه غالب نهاره في رحلة جبلية للصيد والمتعة بين سهول الجبال وسفوحها، وفوق قممها وذُراهَا.

فاقترح الوزير على الملك أن يركب حماراً عند صعود الجبل وتسلقه، فأبى الملك متعجرفاً، وقال: الملك لا يركب إلا الحصان! 

فلم يكن الحصانُ بأقل هوجاً من المَلِك؛ إذ لاحت في الجبل صخرة ضخمة كان في تجاوزها قفزاً مخاطرة كبيرة ومجازفة، فلم يتأنَّ الحصانُ ولا الملك واجتازا الصخرة بتهورٍ ونَزَق، فكاد الملك يلقى حتفه متردياً لولا عناية الله ولطفه، عندها قال الملك للوزير: ليتني اتخذتُ الحمار مرشداً ودليلاً!!

أم جحش: كأنك من نسل حمار "العزير"، أو من ذرية "يعفور" حمار النبي (صلى الله عليه وسلم) فصاحةً وعلماً وفلسفةً وحكمةً!! 

أبوصابر: بل يقال إن يعفور وهو ذلك الحمار الذي أهداه المقوقس حاكم مصر إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، أو أهداه إليه غيرُه، أو حصل عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد فتح خيبر، إنه كان من نسل حمار "العزير". 

وعلى أية حال، أشكر لك مجاملتك؛ لكن انتبهي، علينا نحن الحمير ألا نفخر كالبشر بنسب الآباء، ولا ينبغي أن نتباهى بعزّ الأجداد ورفيع أثيلهم، فقد سمعتُ شيخ المسجد يقول في حديث صحيح عن النبي: (ومن بطَّأ به عمله لم يُسرع به نسبُه)، رواه مسلم.

أي من كان عمله الصالح ناقصاً وقليلاً فقصر عن رتبة الكمال؛ لم يُسرع به نسبه: أي لم يُعْلِ من شأنه شرفُ النسب مع خسيسة الكسب والعمل.

فالعبرة إذاً بالإيمان والعمل الصالح لا بالأحساب والأنساب، فالله رتب الجزاء على الأعمال لا على الأنساب؛ قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ [فصلت: 46]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].

يقول الشاعر:

لعمرك ما الإنسانُ إلا بدينه ولا تترك التقوى اتكالاً على النَّــسب

فقد رفع الإسلامُ سلمان فارسٍ وقد وضع الشركُ النسيبَ أبا لهب

أم جحش: سمعتُ أن يعفور قتل نفسه بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) حزناً وجزعاً؟

أبوصابر: بل يقال إن يعفور مات في طريق النبي (صلى الله عليه وسلم) أثناء حجة الوداع، ولم يصحَّ أن يعفور تردَّى في بئر فقتل نفسه، وليس كل ما يسمعه الحمارُ منا يكون صواباً أو صحيحاً أو دقيقاً، فينبغي علينا كما ننتقي من الحشائش أطيبها، ومن الأعشاب أزكاها وأنضرها، أن ننتخب ما تتلقاه آذاننا الكبيرة فنطرح منها المعلول والمتهم، والضعيف والمحتمل، ونصدق بالوضيء المتواتر النقل والأثر.

صحيحٌ أن حياة كائنٍ ما من الكائنات اكتحلت عيناه بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وخالطه، وآمن به وصدقه؛ لم تكن لتطيب له بعد وفاة الرسول الأكرم؛ لكن يجب ألا يدفع هذا يعفور أو غيره من الكائنات والبشر لقتل النفس وإزهاق الروح، {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]. ولو كان أسىً وكمداً على المصطفى الأزكى الأزهر (صلى الله عليه وسلم). 

أم جحش: حدثني أكثر عن حياة يعفور قبل إهدائه للنبي (صلى الله عليه وسلم) وبعدها.

أبوصابر: لم أقف على شيء من هذا في نحو كتابٍ أو خبر؛ لكن دعينا نتخيل كيف كان الأمر، كانت حياة يعفور قبل النبي (صلى الله عليه وسلم) حياة شقاءٍ وعناءٍ وتعب كسائر الحمير، فلم يكن يلقى من أصحابه إلا رهق المهام والمشاق والعمل، مع سبٍّ وشتمٍ وقهرٍ مشوباً بلَطْمٍ وركْلٍ وسوطِ عذابٍ وجَلْدٍ وعصا.

فلما أُهدي يعفور للنبي (صلى الله عليه وسلم) لقي في كنفه الشريف حسن السلوك وجميل الفعال وطيب الخصال والعمل، فلا سبٌّ ولا لعن، ولا ضربٌ هناك ولا طعن، ولا زجرٌ ثَمَّ ولا أدنى كَدَر!!

بل أسماه النبي (صلى الله عليه وسلم) "يعفور" فألحقه بوليد الظِّباء اسماً وشبهاً ومشاكلةَ سيرٍ ولونٍ وخفَّة وحُسن نظر، ولم يصمه أبداً بسوادٍ ولا قترٍ ولا غبر!

أم جحش: هل اختال يعفور أو افتخر بعد إذ أُهدي لخير البشر؟!

أبوصابر: قد تعلّم يعفور التواضع من النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ وذلك حين ارتضاه ابتداءً هديةً وبه قَنَع وقبل، وجبَر النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) خاطر يعفور بامتطائه والقصواءَ والشهباءَ ولكلٍّ اعتلى وتسنَّم وركب.

وإني لإخال أن يعفور قد عدَّل طريقة طعامه وشرابه، فكان حين يذكر عظام ظهره وقسوة الفِقَر، كان يأكل بنهم وشره؛ كيما يتوسد النبي (صلى الله عليه وسلم) يعفور فيجده مكتنز اللحم بضّ الملمس وثير المتن، مكتظ الظْهر بالعضَل .

وحين كان يشعر يعفور بحاجة النبي (صلى الله عليه وسلم) لحثيث السرعة في الحركة والسير والطلب، كان يقتصد في المأكل والمشرب ليبعد عن جسده ترهلات البطن والمعى، متوخياً الرشاقة مجتنباً لتخمةٍ إثر طعامٍ وكسلٍ وتوانٍ ووخم.

أم جحش: وماذا عن حمقى الناس من البشر الذين يكذّبون بمسرى ومعراجٍ وبُراقٍ في مراءٍ وجهلٍ أو غَرَضٍ وجدَل؟

أبوصابر: من أمن العقوبة أساء الأدب، ودِدتُ لو خلوتُ مرة بأحدهم إذاً لأوسعته عضاً ودوساً، وتنكيلاً ورفساً، حتى يفيء إلى حقٍّ وقصدٍ وصوابٍ ورَشَد!!

أم جحش: ألا تختم حديث الليلة بشعرٍ عن حمارٍ يا رجُل؟

أبوصابر: أذكر أن أمير الشعراء أحمد شوقي قد حكى مرةً عن حمار "حصاوي" فقال:

سقط الحمار من السفينة في الدُّجــى فبكى الرفاقُ لفقده وترحمّـــــــوا

حتى إذا طَـلَـعَ النـهـارُ أتــــــــــــــتْ به نحو الســفينةِ موجةٌ تتـــــقدّمُ

قـالــت: خذوه كما أتانــــــــــــــــــــي سـالماً لم أبتلـعـهُ لأنـهُ لا يُهـضمُ

أم جحش: دامت مودتك ودفء حنانك!

أبو صابر: طاب ليلك.. وسعِد صباحك!




الكاتب المصري / أحمد عيسى يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "يعفور.. أسعد الحمير" 



Share To: