الكاتب اليمني عُمر الزمر يكتب "عن دوستويفسكي والليالي البيضاء" 


ظننت أنني انتهيت الليلة من رواية (الليالي البيضاء) وإذا بها لاتنتهي مني، أذهب لعالم آخر مع روايات دوستويفسكي، لكن لا أشعر بالسوداوية، بل كل السعادة والتشويق، في كل تفصيل
من ربطة الحذاء، وصولا لزاوية الغرفة، وغبار النافذة، وليس إنتهاءً بالأريكة غير المتزنة إحدى زواياها، لم أجد إطلاقًا من يصف ويصوّر هيئات أبطال روايته الخارجية والداخلية بأسلوب فذ وفريد كما يفعل هذا العملاق الروسي، حتى أولئك أصحاب الأدوار الهامشية يعطيهم حقهم الكامل من الوصف الدقيق حتى يصبحوا بسبر الأبطال في الرواية، هذا الأسلوب الفذ في الكتابة يعزز لدى القارئ قناعة بحقيقة الشخصيات ويقربه أكثر من واقعية الأحداث وكأنه يعيش بداخلها، إن هذا الرجل يغور في التفاصيل الدقيقة والعميقة للنفس البشرية ويتحدث عن دوافع التصرفات والمواقف التي يقوم بها المرء شراً كانت أو خيراً، يصف أشكال النزاعات، الرغبات، والعواطف، يولد لديك فكرة إستحالة معرفة كيفية فهم النفس الإنسانية، والإزدواجية التي تعمل بها تلك النفس فهي في آن واحد تحمل أسمى المثل إلى جانب أحط الدناءات، كيف أن الإنسان يحمل في داخله قوة تنفيذ الجريمة ورغبة في تحقيق العدالة.
لقد أغضب دوستويفسكي عالم النفس الشهير (سيجموند فرويد) حتى أنه قال عنه: "كل مرة أنتهي من كتابة بحث عن حالة نفسية، أجد دوستويفسكي قد كتب عنها في رواياته" 
لاحظوا جيدا هذا النص الفلسفي النفسي لدوستويفسكي من روايته (الأبله) :

" إن الإنسان العصبي، إذا غضب غضباً شديداً وخرج عن طوره، يمكن في حالات قصوى أن يمضي في الصراحة إلى درجة الإستخفاف والإستهتار، فلا يخشى بعدئذ شيئًا، ويكون مستعدًّا لإثارة أية فضيحة، حتى لقد يفتنه هذا ويخلب لبّه. إنه يهجم على الناس وقد عقد النية بصورة غامضة لكنها حاسمة على أن يلقي بنفسه بعد دقيقة واحدة من أعلى برج ناقوس، فيصفّي بذلك، دفعةً واحدة، جميع الإرباكات والمشكلات التي يكون قد خلقها سلوكه. وهذه الحالة يسبقها في العادة وينذر بها إنهاك يعتري القوى الجسمية شيئاً بعد شيء. " 

في روايته (الليالي البيضاء) تمكّن فيودور في مائة صفحة فقط ! أن يصوّر لنا المشاعر التي تتملّك الرجل الحالم، المتوحّد، والمرأة المتمسكة بتلابيب الأمل، الأمل الذي سيفك تلك العقدة بين فستانها وفستان جدتها الطاعنة بالسن، مشاعر مختلطة وأفكار مختلجّة وعلاقة مضطربة، لو أراد أحدنا التحدث حول سطر من تلك الرواية ل احتاج إلى مائة مجلّد، كيف لذلك المنعزل المتأمل في هذا الكون الرحب أن يكون متصالحًا مع ذاته إلى تلك الدرجة، ثم تصيّره الإنعزالية إلى كائن عاطفي هش وخجول، يشعر أن عمره وواقعه ضاع وسط أحلامه.

 "كم سيكون حزينًا أن يبقى المرء وحيداً، وحيداً تماماً، وألا يكون لديه حتى شيء يتأسف عليه، لا شيء إطلاقاً، لأن كل ما فقدته، كل هذا ليس شيئاً، إلا صفراً غبياً، كل هذا لم يكن إلا حُلمًا " 
على نحو مؤسف يشعر أن الجميع ينصرفون إلى بعضهم البعض تاركينه خلفهم وحيداً ينظر إلى السماء المرصعة بالنجوم، يصفها بالجمال الذي لانراه إلا حين نكون في ريعان الشباب يرى السماء تتلألأ فيها النجوم، وهي تبلغ من الصفاء مايجعله يتساءل رغمًا عنه:

"هل يمكن تحت مثل هذه السماء أن يعيش أناس يملأ قلوبهم البغض وتعبث بنفوسهم النزوات ؟ أيمكن تحت هذه السماء، أن يعيش مختلف أنواع ذوي النفوس الحاقدة والمتقلبة الأهواء "

ذلك الذي لم يتحدث مع عجوز يعرفه ثمان سنوات ولم يصاحب أحداً في مدينة بطرسبورغ التي يقطن فيها، عاش خلال أربعة أيام مالم يعشه طوال مسيرة حياته، نوع من الحلم أضافه إلى قائمة أحلامه الكاذبة التي عاش بداخلها، علاقة حب جميلة لكنها غير ناجحة كانت ناجمة عن كبت ونزوات غير متزنة.

لقد أحبته المرأة كصديق يداوي أحزانها ويساعدها في العثور على حبيبها الغائب وأخذت عليه عهداً بأن لا يقع في حبها، لكنه خلف ذلك العهد، لم يستطع أن يسيطر على عواطفه، وهي خائفة من ذلك.
"كل ما أريد أن أقول : هو أنه ماكان ينبغي أن تعرفي أبداً أنني أحبك، كان علي أن أحمل سري معي إلى قبري، ناستينكا ياناستينكا .. إنني أحبكِ في منعطفات الحياة الخطرة والسيئة، حتى مع رغبتي في أن أكون وحيداً، حتى رغم برودي المفاجئ نحو كل شيء وغضبي العميق تجاه هذا العالم, أياً كان شكل الحياة التي أعاصرها، أعتقد أنني لن أفعل سوى أن أحبك أكثر"

كيف أن القدر يرمي بك أحيانًا إلى حضن أحد يعيش في غربة كغربتك يحتاج إلى شيء تحتاجه  أنت أيضًا، حينها تنبجس كل الكلمات، وتنعتق ملايين الأسرار التي خبأتها في أعمق محيطاتك

"لقد التقينا ياناستينكا بعد فراق طويل، لذلك أنني أعرفكِ منذ زمن طويل جداً، أنا أبحث عن أحد منذ سنين، أنا أبحث عنكِ أنتِ منذ سنين، ولكن كتب علينا أن نلتقي، فإذا الوف العواطف التي مازالت مكبوتة قد تفجّرت في نفسي، فلماذا يحتفظ أفضلنا بسّر في نفسه؟ 
لماذا هو يلزم الصمت؟ لماذا لا يقول أحدنا فوراً كل ما في قلبه حين يكون واثقاً أن الآخر سيفهمه؟ ناستينكا إن جميع الناس يبدون أقسى كثيراً مما هم قساة في الواقع، ويتخيلون إنهم يخفضون قيمة عاطفتهم إذا هم عبروا عنها بسرعة مسرفة"

ثم "نكتشف في النهاية أن البوح ليس سهلاً للمقربين كما يصوره الآخرون بل صعب جداً والبوح للغرباء متعة وأمان لأن كل ما ستقوله سيذهب معهم ولن يفهموا سوى ما تريد، سيقفون بجانبك سيدعمونك يضحكون ويبكون معك لأنهم لا يعرفون أحداً من الحكاية إلا أنت فأنت بطلهم"

وبعبقريته النادرة يمثّل لنا أعمق التعقيدات في العلاقة بين المرأة والرجل، تلك العلاقة التي توصف بالصداقة، يحاول إيصال فكرة أن علاقة الصداقة بين الرجل والمرأة يستحال أن تكون بذات التفكير والكيفية عند الإثنين، لن يلتقيا عند نقطة واحدة في علاقة كهذه إطلاقًا، لابد وأن تستبد بأحد الأطراف موجة حب تغمره وتحيّد تلك الصداقة الغير منطقية في عين أحدهم، ونادراً ماتتحول العلاقة بينهما إلى علاقة حب وتكلل بالنجاح، مشاعر لايمكن كبتها ولا التحدث عنها بسهولة، كيف للحب الأول أن يهيمن على قلب المرأة وتسحقها حذوات التخلّي والإهمال.
وأعجب ما لفت نظري هو مدى سهولة وقوع المرأة بالحب مرة أخرى لكن مع صعوبة نسيانها للعلاقة الأولى، كم هي في حاجة ماسة إلى رجل تعذبهُ بعلاقتها القديمة تذكره كل يوم بحبيبها السابق تذبحه بحكاويها الحالمة الوردية معه، وكأنها تنتقم من كل الرجال

"إسمع، لا تظن أنني طائشة ومبدّلة في حبها، لا تظن أنني قادرة على النسيان بسرعة والخيانة بسهولة، لقد أحببتهُ سنة كاملة ويميناً لم أخنه أبداً ولو بالخيال، فاحتقر هو ذلك واستهزأ بي، جازاه الله خيراً !
ولكنه جرحني وأهان قلبي إنني أنا لا أحبه، لأنني لا اريد أن أحب إلا من هو نبيل"
وبعد أن ظهر حبيبها السابق مالذي فعلته ؟ لقد صارت لئيمة على نحو لايوصف " لاتفلت يدي أرجوك أريد أن أقابله وأصابع يدانا متشابكة، أريدك أن تشهد هذه اللحظة، إنني أحبك لكن ليس أكثر منه، ليتني أستطيع أن أحبكما معًا ليت ذلك خياراً متاحًا" 

أي جرائم فادحة قد تقوم بها فتاة لم تتجاوز السابعة عشر من عمرها، لقد تركت صديقنا المسكين هناك في الزواية مدميّ القلب، مضرجًا بالخيبات، يقول :"بقيت طويلاً هناك، أتابعهما بنظراتي .. وأخيراً، غابا معًا عن بصري. 

وفي ذات الليلة ترسل لي رسالة 
تقول فيها: "لقد خدعتك وخدعت نفسي .. كان حلمآ خيالآ .. ما أشد ما أتألم من أجلك اليوم .. فاصفح عني .. سامحني "






Share To: