الكاتب والناقد التونسي عبد الرزاق بن علي يكتب مقالًا تحت عنوان : رحلة الشعر الى الرواية بين الخصوصية والتداخل الأجناسي.
الاحد 3 اكتوبر 2021 المشاركة في فعاليات دورة الاقلام الواعدة بصفاقس.
كما هو معلوم خصصت هذه الدورة للبحث في مسالة هجرة الكتاب من الشعر الى الرواية ؛ موت الشعر أم حياة الرواية ؟ وهل هي ظاهرة جديدة أم قديمة قدم الكتابة الابداعية ؟
في البداية و قياسا على نهج فلسفة جيل دولوز القائمة على تحديد المفاهيم وجب ان نتطرق للظاهرة في سياقها التاريخي. حيث كان جنس الرواية دخيلا على الادب العربي فلم يكن هناك حسب بعض النقاد حديث عن الرواية قبل رواية "زينب" للكاتب محمد حسين هيكل بين سنتي 1913_1914 , كما يرى البعض الآخر ان جنس الرواية يعود الى منتصف القرن 19 مع كتاب لبانيين كخليل خوري والسوريين مثل فرنسيس مراش .... لذا ندرك ان الشعر سابق الرواية في الادب العربي .
لفهم هذه الظاهرة اخترت لهذه المداخلة عنوان :
رحلة الشعر الى الرواية بين الخصوصية والتداخل الأجناسي.
أين سنحاول دراستها من خلال ثلاثة افكار رئيسية
اولا : خصوصية النظم والقص ٫الجانب التقني واهم مميزات كل جنس ادبي.
ثانيا : دواعي التداخل الأجناسي بين حرية النسق الابداعي ومقتضيات القص في علاقة بفعل الحكي قصة كان أم شعرا.
ثالثا : الهجرة من الشعر الى الرواية : ا هو نضج التجربة الابداعية أم مجرد سفر وترحال ؟
(1 خصوصية النظم والقص :
لنتفق اولا على تعدد الاسباب التي لا يسمح الإطار لذكرها أو مناقشتها التي تجعل من الشاعر روائيا. مبررات فيها ما هو ذاتي وآخر موضوعي.
لذلك سنحاول فهم ذلك بأسلوب مبسط بعيد كل البعد عن الدراسات والتعقيدات الاكاديمية المغلقة . و دون اطالة ترهق الحضور...
تساؤل بسيط : ما الذي دفع الشعراء إلى الهجرة للرواية ؟
اذا اردنا البحث في خصوصية ومقومات القص والنظم سينتهي بنا الأمر بالتسليم تقنيا باستقلال احدهما عن الآخر..
فالشعر له مقوماته الصارمة التي يستقيم بها وللنثر كذلك. لكن في اعتقادي لا يعدو ذلك ان يكون سوى منهج تعليمي بيداغوجي به نعلم الناشئة أصول الاشياء دون التعمق في التداخل الحاصل فيها بالضرورة.
(2 دواعي التداخل الاجناسي :
من دواعي هذا التداخل الأجناسي نرى انه في بعض الأحيان يكون تداخل به يتحقق البعد الابداعي ، كحضور المحسنات البديعية في النص النثري على سبيل المثال , يفتخ باب التخييل امام القارئ ويكسر روتين السرد، وهو ما يسميه رولان بارت "بالامتاع" في كتابة : " le plaisir du texte " اذ قال : "le plaisir dans le sens où Barthes en fait usage, est imprégné de la culture et renvoie aux sentiments de « l’euphorie, le comblement, le confort » p34
لكن ذلك يجب ان يكون في خدمة القص طبعاً حتى لا يصبح الكلام مجرد تراكم لغوي لا طائل من ورائه.
وحين تحضر مقومات السرد من مكان وزمان واحداث داخل القصيدة ولو ايحاء يكون الشعر مرآة للواقع وتصويرا فنيا له. يمكن اعتبار هذه الظاهرة بالهجرة الجزئية والداخلية (من الشعر الى الرواية أم من القص الى النثر) علاقة تأثير و تأثر
اما اذا تعلق الأمر بالتحول الكلي من كتابة الشعر الى ولوج عالم الرواية فيختلف الأمر نوعا ما .
فالمبررات الخارجية التي تدفع الشعراء الى عوالم الرواية لا حصر لها .ولعل اهمها الانتشار الواسع التي تجده الرواية لدى القراء وسهولة ترويجها مقارنة بالدواوين الشعرية, إلا أننا لن نولى هاهنا اهتماما كبيراً لذلك وسنحاول البحث في كل ما هو ابداعي وادبي .
وهنا سنتناول بالدرس الشاعر والروائي الشادلي القرواشي لما لمسته في ديوانه وعمله الروائي من تقارب لغوي دفع بي لسبر اغوار عوالمه كمحاولة لفهم نزوعه الى الكتابة الروائية بعد التجارب الشعرية. هذا دون أن ننسى الشاعر والروائي الكبير عبدالجبار العش الذي سبق وتطرق له الزملاء بالحد الذي لن أستطيع بعده الاضافة.
(3 هجرة الشعر الى الرواية :
لمعرفة الاسباب الكامنة وراء نزوع شاعر ما الى دخول عوالم الرواية لابد من محاولة فهم فلسفته في فعل الكتابة اولا .في اعتقادي سيكون ذلك خير اعتماد لفهم الظاهرة. اذا بدا جليا في ديوان "ظلال الحروف الرائية " للشاعر الشادلي القرواشي منذ تصدير الكتاب الذي سماه "قلق الكتابة" . ستدرك ما تمثله الكتابة في حد ذاتها بالنسبة لوجوده اولا ولفعله الابداعي ثانيا. اذ يرى انه " يجب الحفر تحت أحجار الحروف والانصات الى هدير الشعر يخب على اديم الاشياء منذ ازلها في اتجاه آبادها ليكون المسير الى تلج المعاني بملكة الذوق " ألا يعني هذا ان الكتابة شعرا كانت أم رواية هي مرحلة الغوص في أعماق الذات بالنسبة للكاتب يقرؤها القارئ معتمدا على الذوق الفردي ٫ وهنا تأتي الاذواق متنوعة تنوع البشر.
فالقارئ يلاحظ تواشجا نصيا بين لغة ديوان "ظلال الحروف الرائية" و رواية "ظلام منحوت" فهو يفتتح عمله الروائي بمقطع يقول فيه : "وأخيرا بدأت شمس أعماقي بالبزوغ حين آذنت شمس سمائك بالمغيب، وها إ نّك ستـغوصين في بحر من العتمة والظّلام، وسأسبح أنا مثل سـمكة في لجج المياه العميقة، لأشاهد ما يوجد في غور الظلمة المنحوتة بفتيل البصيرة. وسأنبئك بكلّ ما لمسته بواسطة أنامل دواخلي، وستـنبئـينـني أنت بما ستـشاهديـنه بـعينيك عندما ينبجس نور الصّباح من جديد".
فالناظر في هذا المقطع يلمس شعرية لغوية طريفة طرافة الجدة لا طرافة الهزل كما عودنا في قصائده وارفة المعنى .يقول في قصيدة "مشاهد خاطئة " ص 21 :
" نطقت بها .
نطقت بذاتي فغنيتها .
وقلت ستاتي
إذن...
على وجهها البسمة المشرقة.
……………....
………………
و لكنها غادرتني ،
و كنت لها واضع السمع
و الليلة المقمرة. "
اذ نلاحظ تناصا ضمنيا بين لغة القصيدة ولغة الرواية فيظهر ذلك جليا من خلال المعجم المعتمد القائم على ثنائية : النور والظلمة / الشمس والقمر / النهار والليل . وكان ذلك أيضا في مواضع عديدة في الديوان ( قصيدة "الحفر" ص85 مثلا ....)
ومن الاسباب العميقة ذات الاهمية البالغة هي البرامج التربوية الرسمية التي جعلت من اللغة العربية على هامش الاهتمامات و زادت من اغترابها. وجهة نظر عمقتها العائلات من خلال تشجيعها للمواد العلمية على حساب كل ما هو ادبي ظنا منهم انها الضامن لمستقبل مهني واعد ذلك ما لمسته من خلال تجربتي المتواضعة في التدريس لمدة عشر سنوات. زد على ذلك مواقع التواصل الاجتماعي التي ساهمت في خلق لغة جديدة هي مزيج من الحروف اللاتينية والعربية... فصرنا لا نرى للشعر اثرا أو اهتماما عند الناشئة (مع الاخذ بالنسبية في كل أمر )
كل هذه التراكمات تجعل من الشعر (بما انه نص قائم على الإيحاء والترميز) صعبا لا تستسيغه الالباب فيهجره الجميع اما طواعية أم قسرا. أ ليس لهذا الأمر شأن في اغتراب الشعر ونزوع الشعراء الى عوالم الرواية وهم مدركون صعوبة رواج ما يكتبون من شعر عند معشر القراء علهم يجدون تموقعا في الساحة الادبية والثقافية ؟؟
خلاصة القول ان الأدب في اعتقادي هو عمل تراكمي بدءا بالخصوصية وصولا الى اكتمال التجربة الابداعية. وبين الخصوصية والاكتمال يكون المسار حرا يمكن ان نطلق عليها ان صح التعبير مرحلة ( التجربة البحث).
فمما لا شك فيه ان الشعر حاضر بالقوة في اذهان الرواة خاصة من كان منهم شاعرا. قياسا على منهج ارسطو القائل : "الحضور بالفعل والحضور بالقوة" كيف لا وهما ينبجسان من منبع واحد ألا هو الخيال .
كما يمكننا التسليم في النهاية ان الحدود بين الأجناس الادبية حدود واهية ،خذ على سبيل المثال مسرحة الأعمال الروائية ولا ادل على ذلك تحول رواية "محاكمة كلب" للكاتب عبد الجبار العش مؤخرا من الورق الى الركح.
اما في الادب الغربي نرى الحديث دائما عن الكاتب écrivain في شموليته شاعرا كان أم روائيا. وهنا نذكر ما قاله كلا من Georges Cartier et Jacques Godbout في كتابهما De la poésie au roman .
اذ يقول
J.Godbout : « je veux dire que l’hypothèse du questionnaire me paraît être : nous vivons en 1965 tout en écrivant ,non pas de la même manière, mais les mêmes cadres que Balzac ou Rimbaud »
ويقول Georges Cartier :
« Ces deux genres furent toujours et restent encore deux mouvements extrêmes d’une nature, deux élans opposés, mais non contradictoire, d’une recherche unique. »
اذا في اعتقادي ليس الشعر في مرتبة دنيا وجب الارتقاء به الى مصاف مراتب الرواية ولا الرواية مرحلة تشريف على حساب الشعر . بل هما متكاملان تكامل ادم وحواء. بهما يكون الادب.
في الختام أريد ان أقول : لنترك للكاتب حرية الابداع وللتاريخ حق الانصاف.
فكثيرا ما حكم النقاد على كاتب ما انه متواضع لا يرجى منه خلقا وابداعا ورجموه بالضعف واثبت التاريخ إثر ذلك علو كعبه وتميزه والعكس صحيح.
Post A Comment: