الباحث الجزائري / رحموني عبد الكريم يكتب "حديث صمت المثقف في غربته للقلم"





القراءة محبة والكتابة عشق، يبدع الكاتب "العاشق" أشكالا قد تكون نثرا أو شعرا، نصا أو نقدا، قصة أو رواية ثم مسرحية. وفي المحبة والعشق دأبت المحاورة المنبثقة من الذات المتعاطية مع هذه الأشكال المتعددة والمتنوعة فكيف ينبغي للقارئ المحب أن يحيا مع هذه الأشكال، لتكون محاورته موافقةً للمحبة؟

القراءة مثل الغابة الجميلة، سُبلها عديدة وظلالها وفيرة توقظ الذات المحبة، المحاورة للكاتب، مكتسية فنون التعاطي وآليات التعامل مع هذه الأشكال انطلاقا من القراءة الناقدة فهي « مصطلح حديث نسبيا نشأ نتيجة الاهتمام برد فعل القارئ وتفكيره حول المعاني المكتوبة، وكيفية الحكم عليها وتقويمها...أو عملية تقويم للمادة المقروءة والحكم عليها في ضوء معايير موضوعية مما يستدعى من القارئ فهم المعاني المتضمنة في النص المقروء، وتفسير دلالاته تفسيرًا منطقيًا مرتبطًا بما يتضمنه من معارف ».[1]

هذه القراءة ترد فعل القارئ وتفكيره حول المعاني المكتوبة، وكيفية الحكم عليها وتقويمها وكشف ظلال صمت المثقف.

إذن: أنا آخذ القلم، أخربش فأنا موجود...وفي الوجود الإنساني إثبات الذات المفكرة التي تَنتَشي الحرف، تطلبه حثيثا في فعل الكتابة ما دامت إبداع للنصوص وإبداع للإشكال المتعددة. كان علي ألا أحمل القلم، رجوته لو تركني في صمت وشأني، تسلل إلي يرغمني على النطق، أنني أتساءل عن هذا المحرك المجهول والدافع القوي الذي حذا به أن يرغمني بمطاوعته فأخربش كلمات ليست كالكلمات استنطق بها الصمت لعل القلم يقف شامخا للكتابة يغازلها ويوقعها في شباك البوح والاستنطاق.

عندما أستعمل القلم تمتلكني بَردَاء و سُخُونة شديدة لكن لا مفر من الكتابة، فسيكون قلما مجنونا بالصمت الذي توارى بعيدا في الذاكرة العميقة، أو في التجربة الشخصية القوية، فلا بد لقلمي يستوجب التعريج نحو فعل الكتابة، ميكانيزم الحياة، يَنضَخُ بالرقة والإحساس كما يَنضَخُ المطر نحوك أيها الصمت.

لماذا تَنضَخُ يا قلم وتكتب!

فالتوحيدي غضب وحرق كل كتبه، أدرك يقينا لا مكانة لفكره في عصره ولا أهمية لإبداعه المتنوع المشارب من علم الكلام إلى الفلسفة، الأدب والشعر، الفقه والذوق، النقد والحجج العقلي، نظرية الجمال والنظرة الثاقبة للحياة، حتى نعته العديد من أدباء عصره بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، لكن ما قيمة هذا النعت؟ إذا عَده ابن الجوزي من الزنادقة الثلاث الكبار، ما قيمة هذا الوصف؟

إذا كان التوحيدي عبر بنفسه عن حاله قائلا: « لقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملاً للأذى، يائساً من جميع من ترى، ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص ».[2]

لكن غربة المثقف سرعان ما تتلاشى بالحكمة الفلسفية، ففيتاغورس اليوناني كان محبا للبشر، محبا للحكمة، لم يستسلم لغربته في عصره وهذا الشيخ الطبيب الرئيس ابن سينا تغلب عليه الحكمة بدل الضلال ويتحكم فيه العقل بدل الهوى، والرازي أبو بكر يحاول بجهد صادق، وضع العقل موضع الحاكم الأول على الأشياء جميعاً، ويورجين هابرماس فيلسوف القرن العشرين، فلسفته متحررة من التسلط والهيمنة والبيروقراطية والرأسمالية ووضع قواعد للفكر تقوم على الحوار الحر واللغة بين الأفراد وهي أسرع وسيلة للتفاهم وأسرع وسيلة لتواصل لتتجاوز الغربة الغريبة التي يعايشه المثقف في زمنه هذا. رغم غربة المثقف واستوحاشه الفكري في عصر هجران الكتابة والكتاب القراءة والمقروء ما عليك إلا أن تكتب يا قلم فإن إيميل بينفينيست ( Émile Benveniste)‏ قال: « إن الملكة الرمزية لدى الإنسان تبلغ تحققها الأعلى في اللغة التي هي التعبير الرمزي بامتياز، وكل الأنساق التواصلية الأخرى، كالسمعية، الخطية، الحركية، البصرية تشتق منه وتفترضه».

قائمة المراجع:

1. سعيد عبد الله لافى: القراءة وتنمية التفكير، عالم الكتب، طبعة أولى، 2006.

2. أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، المكتبة العصرية، طبعة أولى سنة 2011، صيدا بيروت لبنان.





[1] سعيد عبد الله لافى: القراءة وتنمية التفكير، ص:68.


أبو حين التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ص 16. [2]
الباحث الجزائري / رحموني عبد الكريم يكتب "حديث صمت المثقف في غربته للقلم"




الباحث الجزائري / رحموني عبد الكريم يكتب "حديث صمت المثقف في غربته للقلم"
Share To: