فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف يكتب "الاحتكار وغلاء الأسعار"
لقد عانى كثير من المسلمين من غلاء الأسعار، وخاصة في الأعوام الأخيرة، ولا يزال ذلك في ازدياد، وهذا بطبعه أثَّر على معيشة كثير من الناس ، وأدى بهم إلى زيادة الحاجة والعوز والوقوع في معاصي الله من أجل الحصول على لقمة العيش .
وأصبح كثير من الناس يشتكي هذا الغلاء وخاصة الفقراء ولكن غاب عن الجميع أن الغلاء له أسباب كثيرة ومتعددة .
أن تلك الأمراض المعضلة التي بدأت تدبُّ في الناس ، وهي الغلاء واحتكار السلع ، غالبها من ضعف الإيمان وحب الدنيا وإيثارها على العاجلة .
وأنا أقول لمن يقع في ذلك :
كم ستعيش في الدنيا وكم ستملك وإلى متى التمتع بملذَّاتها أليست لك نهاية أليس لك لقاء بملك الموت ألا تعلم أنك ستقف بين يدي رب العالمين فيجازيك بما فعلتَ ؟
فليتق الله كل من تُسوِّل له نفسه احتكار السلع ورفع أسعارها .
فقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم :
«لا يحتكر إلا خاطئ» .
رواه مسلم
والخاطئ هو الآثم .
وقال صلى الله عليه وسلم :
«مَن احتكر ، حَكْرة يريد أن يغلي بها على المسلمين ، فهو خاطئ» .
رواه أحمد
وليعلموا أنه لن تنفعهم أموالهم ولا أملاكهم فتمنع عنهم عقاب الله ، وليعلموا أنهم موقوفون بين يدي خالقهم فيسألهم عن كل ما جمعوه أهو من حلال أم من حرام .
وفي الأثر :
أن الناس في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاؤوا إليه وقالوا :
نشتكي إليك غلاء اللحم فسعِّرْه لنا فقال : أرخصوه أنتم ؟
فقالوا : نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزَّارين ونحن أصحاب الحاجة فتقول : أرخصوه أنتم ؟
فقالوا : وهل نملكه حتى نرخصه؟
وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا ؟
فقال قولته الرائعة : اتركوه لهم .
فدلهم رضي الله عنه إلى طريقة سديدة لمعالجة سعر هذه السلعة وذلك بتركها بحيث يتركوا ما غلا سعره إلى ما هو دونه ؛ كي يعلم هؤلاء المحتكرون أن الناس يمكنهم ترك سلعتهم فيرخصونها ؟
بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يطرح بين أيدينا طريقة أخرى في مكافحة الغلاء :
وهي إرخاص السلعة عبر إبدالها بسلعة أخرى .
🌴فعن رزين بن الأعرج مولى لآل العباس قال :
غلا علينا الزبيب بمكة ، فكتبنا إلى على بن أبى طالب بالكوفة :
أن الزبيب قد غلا علينا .
فكتب أن أرخصوه بالتمر أي :
استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوفِّرًا في الحجاز وأسعاره رخيصة فيقل الطلب على الزبيب فيرخص .
وإن لم يرخص فالتمر خير بديل .
فأنتم بيدكم بعض علاج مشكلة الغلاء واحتكار السلع ، فإذا وجد التجار أن الناس زهدوا فيما عندهم من السلع الغالية ، أرخصوها وحرصوا على بيعها .
اعلموا أن التاجر الذي يرأف بالناس يرأف الله به، ومن يرحمهم يرحمه الله ، ومن ييسر عليهم ييسر الله عليه ، ومن صدق في بيعه وشراءه نال الأجر العظيم والثواب الجزيل .
ويكفيه شرفًا وفخرًا أن ينال الجنة بفضل الله تعالى ورحمته .
🌴قال صلَّى الله عليه وسلَّم :
«التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء» .
رواه الترمذي .
إن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أجمعا على تحريم الاحتكار وذلك لقوله تعالي :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ
وما نشهده فى الفترة الأخيرة من ارتفاع الأسعار بشكل جنونى لا يتناسب مع دخل المواطنين .
وهذا كله يرجع لجشع بعض التجار مخالفين بذلك الشرع والأديان السماوية فى احتكار الأسعار وتعطيش السوق بتخزين بعض السلع الأساسية بغية رفع أسعارها.
وعلى المواطنين أن يكونوا على قدر كبير من الوعى ومقاطعة السلع وعدم الانسياق وراء الترويج للشائعات بشراء السلع وتخزينها، لان ذلك من أهم أسباب ارتفاع الأسعار ويساعد التجار على رفع الأسعار واحتكارها، ومقاطعة المحتكرين يساهم بشكل قوى وفعال فى ضبط الأسعار فى السوق ويقضى على جشع التجار.
لقد اشتعلت نار الأسعار واكتَوَى بها الصغير والكبير ، وأُرْهِق المحتاجون والضعفاء والفقراء، وظهر جَشَعُ وطمعُ كثيرٍ من التجار، هذا الطمعُ والجشعُ الذي يُمَزِّقُ كيان الأمة .
إن زيادة الأسعار وَبَالُها كبير وذلك لأنَّ غلاءَ الأسعارِ يُرْهِقُ الضعفاءَ والمحتاجينَ وأصحابَ الحاجةِ ، ويُورِثُ الضغينةَ والبعدَ عن الناس وهو سببٌ في اضطراب الشعوب وعدمِ استقرارها وسببٌ في انتشارِ الحقدِ والكراهيةِ بين أفراد الأمة ، وسببٌ لدفعِ ضِعافِ النفوسِ إلى سلوكِ الطرقِ غيرِ المشروعةِ للحصولِ على المال .
لقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمةَ من أن تكون سبباً في غلاءِ الأسعارِ .
🌴فعن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قال :
سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ المُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ كانَ حَقًّا عَلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِن النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ .
رواه الحاكم وأحمد.
بِعُظْمٍ مِنْ النَّار: يعني بمكان عظيم من النار.
ليسمعْ كلُّ مَنْ كانَ سبباً في غلاءِ الأسعار وارتفاعِها هذا الحديثَ وليُوَطِّنْ نفسه إلى هذا المصير، إذا لم يتب إلى الله تعالى.
ولهذا يجب علينا التحذير من الاحتكار
ولنسمع إلى تحذير سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاحتكار الذي هو سببٌ عظيمٌ من أسباب غلاءِ الأسعار .
🌴أخرج الإمام مسلم عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ الله رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
لا يَحْتَكِرُ إِلا خَاطِئٌ .
🌴وروى الإمام ابن ماجه عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ :
سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
مَنْ احْتَكَرَ عَلَى المُسْلِمِينَ طَعَامًا ضَرَبَهُ الله بِالجُذَامِ وَالإِفْلاسِ .
الجُذام : هو الدَّاء المعروف يصيب الجلد والأعصاب وقد تتساقط منه الأطراف.
🌴وعن الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :
مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ الله تَعَالَى وَبَرِئَ الله تَعَالَى مِنْهُ ، وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ الله تَعَالَى .
🌴وعن الطبراني عَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ :
سَأَلْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الاحْتِكَارِ مَا هُوَ ؟
قَالَ : إِذَا سَمِعَ بِرُخْصٍ سَاءَهُ وَإِذَا سَمِعَ بِغَلاءٍ فَرِحَ بِهِ بِئْسَ العَبْدُ المُحْتَكِرُ إِنْ أَرْخَصَ الله الأَسْعَارَ حَزِنَ وَإِنْ أَغْلاهَا الله فَرِحَ .
🌴وعن الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَبِي صِرْمَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ .
🌴ولنسمع إلى حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه الإمام مسلم :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ :
قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ الله فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَالله فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ .
🌴واسمعوا حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه الإمام الترمذي عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ :
قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ .
🌵وأختم بقول الله تعالى :
{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}.
واعلموا بأنَّ الجزاء من جنس العمل، ومَنْ ضيَّق على الأمة ضيَّق الله عليه ، ومن أحسن إليها أحسن الله إليه ومن شقَّ عليها شقَّ الله عليه ومن يسَّر عليها يسَّر الله عليه .
🌲وختاماً :
ما نزل بلاءٌ إلا بذنب ، ولا يُرفَعَ إلا بتوبة ، فهل نسمع نداء الله تعالى لنا جميعاً :
{وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}؟
هلَّا تُبْنَا إلى الله تعالى من كل سببٍ يكون سبباً في رفع الأسعار .
وأن نكون سبباً في تفريجِ الكُرَبِ عن المكروبين واسأل الله تعالى أن يُصْلِحَ أحوالنا وأن لا يُشَمِّتَ أعداءنا بنا يا رب العالمين .
فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف يكتب "الاحتكار وغلاء الأسعار "
Post A Comment: