الكاتب السوري / د. عبد المجيد المحمود يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الموتُ كلّ يوم"
حين برز لي لم أكن أدرك ما يعنيه و لم يكن قد سبق لي أن تعرفت إليه لكنني عرفته من خلال منظره القبيح الذي رسمَتْهُ في عقلي كلُّ أحاديث الكبار عنه...
كيف أنه يخطف الأنفاس و يوقف النبض و يجمد الدماء في العروق و يجعلنا شاحبين كقطعة جبن عفنة...
نعم صحيح..إن منظره مرعب، غير أنّ كل ما وصفه به الكبار من قوةٍ رهيبةٍ لم ألمسها فيه أبدا...حقيقةً لقد بدا هزيلا ضعيفا، كنت لأشك به و بأنه هو فعلا لولا أنهم قالوا إن منظره أسوأ ما يمكن أن يراه الإنسان...
كنت أراه يتقدم نحوي، يقترب رويدا رويدا، يحاول محاصرتي، يحاول تقييد أنفاسي، يشد الوثاق على قلبي...كيف لا و أنا أصلا مكبل بجرعة عالية من المخدر، و الأطباء يحاولون بكل جهودهم أن يخلصوني من كتلة كبيرة تحتل نصف دماغي و كنت أسمع همسهم بل و أكاد أؤكد أنني كنت أرى نظراتهم أيضا و هزات رؤوسهم و هم يتبادلونها مؤكدين أن نجاح عمليتي هو ضرب من الخيال و ربما هذا ما كان يشجع ذلك القادم نحوي و هو يعتقد أن الفرصة مواتية لاختطافي من أمي و أبي و أخواتي و قطتي الصغيرة...
بيد أنني لم أكن من أولئك الأطفال المدللين الذين يستسلمون بسهولة أمام أي عارض، حين اقترب مني كشرت له عن أنيابي و غرزت في صدره سهم خوف لن ينسى جرحه مطلقا، ثم شددت وثاقا حول عنقه، و أخبرته أنه عليه أن ينصاع لأوامري، فبدا ودودا حنونا لطيفا، حتى أن صورة وجهه اختلفت تماما و أصبحت أكثر جمالا و صفاء، بعد أن راح يشاهد فيلما قصيرا عن مسيرة حياتي، شاهدني في بعض أيام الثلج شديدة البرودة و أنا أرتدي بزة مهترئة تخترقها الرياح الباردة من كل حدب و صوب، و شاهد أصابع أقدامي الزرقاء و هي تبحث عن الدفء في حذاء ممزق، يتسرب منه الثلج دون رحمة.
أعجبه وجهي المغبر على البيادر و أنا أجمع ما بقي من آثار المحاصيل لأبيعها و أشتري بثمنها دفاترا و أقلاما للسنة الدراسية الجديدة...
نفرت من عينه دمعة و هو يرى الظلم الواقع عليّ، و معلمي يقلد أحد التلاميذ وسام التفوق، بينما كانت كل علاماتي هي الأعلى على مستوى المدرسة، فيما أنا كنت سعيدا، غير آبهٍ بما يحصل و عيناي تمتلئان إصرارا و عزيمة على المضي في دروب التفوق...
كان فيلما قصيرا جدا لكنه أخذ منه كل مأخذ و علم منه أنني لست مستعداً للرحيل الآن، لذلك فقد حمل كل أسلحته و غادر، و فجأة صرخ الفريق الطبي معلنا نجاح الأمر، نعم لقد استطاع جسدي الضئيل أن يحدث معجزة في عالم الطب، لقد رحل الموت، و استطعت أن أتنفس و أن أخرج من رحم الثقب الأسود إلى الحياة من جديد...
لم يكن الأمر صعبا، بل لقد كان أشبه بمغامرة بريئة...
لازلت أمشي الآن، لا زلت أمضي في الدروب، غير أن عزيمتي وهنت، و إصراري ضعف، فذلك الذي غادرني بعد الجراحة، أصبح يتنكر في ثياب جديدة، و في كل يوم يخطفني من الحياة ثم يعيدني إليها جثة عرجاء أو بكماء أو صماء أو عمياء.
_________________________________________
الكاتب السوري / د. عبد المجيد المحمود يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الموتُ كلّ يوم"
Post A Comment: