الكاتب الأردني الفلسطيني / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان "قصر البارون.. سحر خفي يجمع الحضارات"
مع أنني لم أزر مصر يوماً إلا أنني كنت أسمع الكثير من الحكايات المثيرة عن (قصر البارون) حتى في طفولتي، فالبعض كان يربطه بالأشباح والقوى الخارقة من خلال الحكايات التي تم تناقلها بواسطة جيرانه وصولاً إلى عامة الناس، وكنت أستمع بإصغاءٍ ممزوج بالفضول والخوف الذي تحول إلى انبهار كونه تحفةً معمارية فريدة تجمع عدداً من الثقافات على أرض مصر بشكلٍ استثنائي ارتبط بعدة عوامل ميزته عن غيره من المعالم السياحية الشهيرة في مصر..
وقد سمي بهذا الإسم نسبةً إلى (البارون امبان) واسمه الحقيقي ادوارد لويس جوزيف، وهو مهندس، ممول، رجل أعمال و صناعي بلجيكي مولعٌ بالحضارات الشرقية وخاصةً الحضارة المصرية القديمة، وقد نال لقب البارون كتكريمٍ له على إنجازاته في العديد من المجالات من قبل الملك البلجيكي (ليبولد الثاني)، كما حصل على رتبة جنرال ومدير لإنتاج الأسلحة في باريس ولوهافر للجيش البلجيكي خلال الحرب العالمية الأولى، فكان رجلاً عملياً طموحاً ذا نفوذٍ ونظرة جعلت عمله يتوسع ليشمل عدداً من الدول في آسيا وأوروبا وافريقيا من خلال مشاريع ضخمة تركز على البنى التحتية ومن أبرز إنجازاته ميترو باريس، كما كانت لديه نزعةٌ استقلالية جعلته يفتتح بنكاً خاصاً لتمويل مشاريعه المتعددة دون الإعتماد على البنوك وهو (البنك الصناعي البلجيكي) عام ١٨٨١، كما شارك في إنشاء شركاتٍ للكهرباء تدعيماً لمشاريعه وتحقيقاً للمزيد من الإستقلالية فيها..
وكانت مصر واحدة من أبرز وأهم محطاته التي بدأت علاقته بها باكراً بعد أن حصل في عام ١٨٩٤ على امتياز إنشاء أول شبكة ترام عامة في القاهرة، واستتبعت لاحقاً بمشروعٍ ضخم لشراء أراضٍ بأسعار منخفضة في الصحراء لبناء مدينة (هيليوبوليس) و(قصر البارون) محور هذا المقال، وهيليوبوليس تعني باليونانية (مدينة الشمس) والتي تبعد ١٠ كيلومترات عن وسط القاهرة، فصممت لتكون ما يشبه المدن الأوروبية في مصر من خلال توفير البنى التحتية وتوفير كافة سبل الرفاهية والراحة بأحدث المقاييس في ذلك الوقت، والتي بدأ بناؤها عام ١٩٠٦ من خلال شركة (واحات هليوبوليس) وهي إحدى الشركات التابعة للبارون إمبان بتصميم المهندس المعماري البلجيكي إرنست جاسبار في توليفةٍ من العمارة الإسلامية والأوروبية والفارسية والمغربية، وبعدها بدأ في عام ١٩٠٧ بناء (قصر البارون) الذي قام بتصميمه المهندس الفرنسي (ألكسندر مارسيل)، والذي استوحاه من تصاميم معابد أوديشا الهندوسية، ومعبد أنغكور وات في كمبوديا، الذي تصنفه منظمة الأونيسكو العالمية واحداً من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق آسيا، ورأى البارون إمبان هذا التصميم للمرة الأولى خلال معرض باريس العالمي عام ١٩٠٠، فقام بشرائه من المهندس وعاد به إلى القاهرة ليسلمه إلى عددٍ من المهندسين الإيطاليين والبلجيكيين، وبدأ بناؤه على الربوة العالية التي حددها لهم البارون في صحراء القاهرة ليستغرق بناؤه مدة خمس سنوات ويتم الإنتهاء منه عام ١٩١١، أما بالنسبة إلى زخرفة القصر وديكوراته فكانت بتوقيع الرسام جورج لويس كلود..
وسكن البارون فيه حتى وفاته كجزءٍ من اعجابه الشديد بمصر التي قرر أن تكون حياته ومدفنه فيها حتى لو مات خارجها حسب وصيته، وهو ماحدث بالفعل فعاد جثمانه بعد وفاته في بلجيكا ليُدفن في القاهرة في (بازيليك هيليوبوليس) التي أنشأها بالقرب من قصره، والذي انتقلت ملكيته إلى ابنه حتى وفاته عام ١٩٤٦، ويدفن بجوار والده مما عرضه للإهمال بعد انتقال ملكيته إلى الأحفاد، ثم تم بيعه لثلاثة أشخاص خلال مزادٍ علني عام ١٩٥٤ مع محتوياته، وتم لاحقاً في عام ١٩٩٣ تصنيفه كمعلم أثري ثم قامت وزارة الإسكان المصرية بشرائه من مالكيه عام ٢٠٠٥..
وبالعودة إلى الحديث عن قيمة هذا المعلم وفرادته فإن العديد من العوامل تضافرت معاً لتجعل منه أسطورةً وأيقونةً معمارية خاصة جداً، فالموقع الذي بني فيه إضافةً إلى تصميمه وتاريخ صاحبه ومزجه للعديد من الثقافات بين شرقيةٍ وغربية عدا عن القصص والروايات التي أحاطت به بين الناس وأهلته لتبوء هذه المكانة..
فتصميمه الفريد الذي يشبه شخصية البارون التي تمتلك سعة الأفق وتعدد الثقافات تمتاز أيضاً بمسحةٍ من الغموض، فنرى تلك البصمات بوضوح في أرجاء القصر رغم أن مساحته محدودة مقارنةً بغيره، واستلهم تصميمه الخارجي من المعابد الهندوسية القديمة وتصميمه الداخلي من فنون عصر النهضة الأوروبية، بطريقةٍ تجعل الشمس لا تغيب عن حجراته وردهاته أبدًا، في مساحةٍ تتكون من ٧ حجرات موزعة على طابقين في كلٍ منهما صالة كبيرة لكن الطابق الأول يحتوي على غرف للترفيه والمعيشة بينما يحتوي الطابق الثاني على غرف للنوم لكلٍ منها شرفٌة خاصة محمولة على تماثيل الفيلة الهندية، كما يوجد في كلٍ منها حمامها الخاص الذي تكتسي أرضيته بالفسيفساء الملونة، كما أن السلم الرخامي مزينٌ بدرابزين محلى بتماثيل هندية صغيرة ودقيقة الصنع، وكان سطح القصر هو المكان المفضل للبارون حيث كان يشرب الشاي فيه دوماً عند الغروب كما كان يقيم فيه بعض الحفلات من وقتٍ لآخر، وكان مرسوماً ومزيناً بنقوشٍ نباتية وحيوانية وكائناتٍ خرافية ويصعد إليه بواسطة سلم مصنوع من خشب الورد الفاخر..
كما امتاز السرداب بذكاء تصميمه ودقته وتنظيمه العالي فكان مقسماً بشكلٍ مثالي ليحتوي كل الغرف المخصصة للعاملين وأماكن انتظار السيارات والمطبخ وغيرها من التقسيمات التابعة للقصر والتي كانت تزدان بنفس النقوش والرسومات والتصاميم، كما كان حول القصر حديقة فناء بها زهور ونباتات وتماثيلٌ رخامية على الطراز الأوروبي من الأساطير اليونانية والرومانية، بما في ذلك تمثالٌ يصور النرجس للمهندس الفرنسي (أنطوان مارتن جارنو)، أما في أسفل القصر فيوجد نفق يصل بينه وبين (كنيسة البازيليك)، واستخدم في بناء القصر أيضاً المرمر والرخام الإيطالي والزجاج البلجيكي البلوري الذي يمكن من بداخل القصر أن يرى كل من في الخارج، كما تتداخل الثقافات والحضارات في تصاميمه حيث ترتفع النوافذ المصنوعة على الطراز العربي وتنخفض مع تماثيل هندية بوذية، وتزدان شرفات أبوابه بزخارف إغريقية دقيقة الصنع، كما يحتوي القصر على الكثير من التماثيل والتحف النادرة المصنوعة من المعادن النفيسة قام بإحضار الكثير منها من رحلاته المختلفة بين البلدان سواءاً كان من الهند أو عدة دولٍ أوروبية لتكون ملتقى ً لثقافات الشرق والغرب كما كان ذوق (البارون إمبان)، والذي جعله محطةً هامة وموقعاً لتصوير العديد من الأعمال الفنية المصرية على مدار السنين..
ولا شك أن كم القصص والروايات المتناقلة عن الأشباح والأرواح التي تسكنه ساهمت في إضفاء هالةٍ من السحر لهذا القصر الذي أكسبه من ناحية ٍ أخرى جاذبيةً خاصة، ومنذ إعادة افتتاحه في ٢٩ حزيران/يونيو من العام ٢٠٢٠ بعد ترميمه أصبح واحداً من أهم وأبرز المعالم السياحية الشهيرة في مصر كما يضم أيضاً معرضاً لتاريخ هليوبوليس، بما في ذلك ترام قديم معروض في الحديقة بالإضافة إلى سيارتين من أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، مما يجعل من هذا القصر أعجوبة ً تمتلك سحراً خفياً يجمع الحضارات في أحضانه وبين جنباته..
الكاتب الأردني الفلسطيني / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان "قصر البارون.. سحر خفي يجمع الحضارات"
Post A Comment: