الكاتب الصحفي المغربي / عثمان ناجي يكتب نصًا تحت عنوان "هَلْوَسَةٌ تُشْبِهُ البَوْحَ"
أَغْضَب أَحْيَانًا كَثِيرَةً .
أَغْضَب حِين الشَّمْس تَتَأَخَّرُ عَنْ مَوْعِدِ شروقها الْمُعْتَاد ، بَيْنَمَا يَتَمَادَى اللَّيْلُ فِي سَوَادِه و صَمْتِه ، و أَنَا لازلت انْتَظر صَيْحَة أَوَّل طَيْرٍ يُعْلِن الصَّبَّاح .
أَغْضَبُ مِن مذيعة بَلْهَاء ، تَتَبَاهَى بِشَعْر أَشْقَر مُسْتَعَار مِنْ عُلْبَة صِبَاغَةٍ و اِبْتِسَامَةِ بائع خرداوات ، تُعْلِن مَوْت الْإِنْسَانِيَّة تَحْت القصف الهمجي و الْمَجَاعَة ، ثُمّ تُبَشِّر المشاهدين بموسم الموضة الْجَدِيدِ فِي بارِيس .
أَغْضَب مِنْ تِلْكَ الرُّوحِ الَّتِي غادرت قَبْلَ أَنْ أُحَضِّرَ مَا يَكْفِي مِنْ الدَّمْعِ لِلْوَدَاع ، حِين تتراقص فِي كُلِّ مَكَان ، حَيْنَ تُحَوِّلُ أَيِّ مَكَان إلَى غُرْفَةِ انْتِظَار كئيبة ، و تَعْزِف فِي صُمْت لَحْنَ الذِّكْرَى و الذَّاكِرَة و الْأَلَم .
أَغْضَبُ مِنْ الْبَحْرِ القَابِع فِي الْجِوَارِ ، هَادِىء كطبيب أسنان و أَزْرَق مثل سماء نيسان، رَغم آهات الْفِرَاق و دَعَوَات الْأُمَّهَات المنتظرات ، هَائِجٌ مِثْل سِكِّير يَتَجَوَّلُ وَحِيدًا فِي زُقَاقِ مَهْجُور يَسُبّ الْمَدِينَة الْمُطِلَّة عَلَيْه بوقاحة الْكَذَّابِين، بِأَمْوَاج بَذِيئَةٍ و بَيْضَاء.
أَغْضَبُ مِنْ كَلْبٍ مُسِنّ و وَفِي ، تَعِب مِن النّبَّاح و الْأَنِين قرب حَائِط مَعْزُول حِين تَرَكَهُ مَنْ كَانَ يحْرَسُ بشراسة و بِصِدْق ، يَنْتَظِرُ نِهَايَة مُؤْلِمَة تُشْبِه نِهايَةَ كُلَّ الْكِلَاب الضَّالَّةِ ، و كُلَّ المُدْمِنِين على الْوَفَاء .
أَغْضَبُ مِنْ نَفْسِي حِينَ اُدَنْدِنُ أغاني الْحَبّ الْقَدِيمَة بشارع مُكْتَظِّ بِتِجَارَة الْأَشْيَاءَ وَ الْأَجْسَاد و قِيمَة الدولار بَعْد بِدَايَة الْحَرْب ، حِين اَلْتَقِطُ و أُنْشِدُ شِعْرًا مُعَتَّقًا سَقَط سَهْوًا مِنْ خَزَّانِ أَيَّامِ الأحلام المنسية عمدا ، و اُرَدِّدُهُ فِي حَضْرَةِ لامُبالاة كَبِيرَةٍ بِحَجْم كَوْكَب الْأَرْض .
أَغْضَبُ مِنْ الرِّيحِ حِين تَسْلُب الْأَشْجَار أَوْراقَهَا و تَتْرُكُهَا عَارِيَّةً لَا تمْلكُ سِوَى الْإِيمَان بِعَوْدِة الرَّبِيع الوشيكة ، حِين تَنْصَرِف بِخِفَّة مِثْل قَاطِعِ طُرُقَات و تَعُود نَسْمَةً لطيفة و كَأَنَّهَا عَاشِقٌ يحْمَل وَرْدَة للمعشوقة .
أَغْضَبُ مِن شَيْطَان الشَّعْر حِين يطاوعني فَيَتَحَوَّلُ إلَى مُهَرِّبٍ يَرْتَدِي سُتْرَةً جِلْدِيَّة سَوْدَاء و حِذَاء رِيَاضِيّا يزودني سِرًّا بِكَلِمَات منتشية مِثْل مُخَدِّرٍ قَوِيّ وَ مُتَفَجِّرَةٌ مِثْل قُنْبُلَة موقوتة ، حِينَ لَا يطاوعني و يتقمص دَوْر أَمِيرٍ فَاسِدٍ بِجُبَّةٍ مِنْ حَرِيرٍ و اساوير ذَهَبِيَّة يُغْدِقُ بِلَا حِسَابٍ عَلَى شَاعِر كَذَّاب يَمْدَحُهُ و يَنْزِع أمَامُهُ قُبَّعَة بَشِعَة تُغَطِّي خَيْبَة النِّيَّة و سُوء الْأَمَل ، و سَخَافَة الشُّعَرَاء .
أَغْضَبُ حِين يُحَاصِرُنِي الْحُزْن بِلَا سَبَبٍ يُرَى،مِثْل طلاسيم فرعونية غَامِضَة .
أَغْضَبُ حِين يَنْهَزِم الْحبّ أمَام الْكِبْرِيَاء ، حِين يَتَرَنَّح قَبْلَ السُّقُوطِ مِثْل مُلاكِم فاشِل فَقَد الرَّغْبَةَ فِي الْقِتَالِ فِي آخِرِ جَوْلَة مِن نزال طَوِيل و مُنْهِك.
أَغْضَبُ و فقط.
مُجَرَّد هَلْوَسَة أُخْرَى . . .
الكاتب الصحفي المغربي / عثمان ناجي يكتب نصًا تحت عنوان "هَلْوَسَةٌ تُشْبِهُ البَوْحَ"
Post A Comment: