الكاتب المغربي / إسماعيل بخوت يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "ناذل المقهى"




كل ما يسري في دواخله ، يتسم بشيء من الظلمة ، بشيء من السواد ، كان ينظر لباب المقهى ، و الحزن لا يفارق محياه ، حتى الأجوبة التي تطبخ في مخيلته  على نار هادئة لكل تلك الأسئلة التي  تتماهى بالرقص أمامه ، منتشية بعدم قدرته على الجواب ،  تحمل في أحرفها كما هائلا من الغم و الهم .

أعينه كانت تتراقص و هو يهب بالدخول إلى المقهى ، كان يتدبر كل شيء ، شكل الكراسي ، الموائد ، طبيعة طلاء الجدران ، عناوين الجرائد التي يطالعها القراء من الزبائن .

كانت الأفكار تتزاحم داخل مخيلته ، و الخيبة تنخر قواه ، كان تبدو له ملامح المستقبل مبهمة ، و هو يحمل حقائبه يخطو داخل المقهى .

استقبله مالك المقهى ، بابتسامة باهتة ، وتفوه قائلا و هو يحملق في عينيه ، مند ساعات و نحن  ننتظرك يا بني.

 ابتسم في وجهه بصعوبة بطريقة  لا تبت لدواخله بصلة ، غير تيابه بسرعة ، و ارتدى بذلة العمل ، و قبل أن يشرع في بداية عمله ، جلس فوق سريره  ،المحشو في إحدى زوايا المقهى ،القريبة من مكان تحضير طلبيات الزبائن .  أخد يفتش داخل حقيبته ، و أخد  يتدبر تلك الشهادة التي ناضل لسنوات بين أسوار الجامعة لنيلها  ، بشيء من الحسرة ، و الدموع مستوقفة تحث أجفانه كأنه يكلمها قائلا : 

بدلت كل شيء لنيلك ، ضحيت بكل ما يمكن أن يعكر صفوة مزاجي و أنا أخطو تجاهك ، غضيت الطرف حتى عن تلك التي استقوفني وجودها في قلبي، في روحي  دون أستشعر تسللها .

تسرب إليه طنين القدمين قادم تجاهه ، و هو مخمور يتدبر تلك الشهادة بنفسية منكسرة و فؤاد مجروح. 

 حاول بسرعة أن يلم كل ما في يديه ، و أن يقوم بتعديل نفسيته ، ليبدأ عمله .

اصطدم بمالك المقهى و هو على خطوة منه ، تدبر ملامحه دون أن يطيل النظر ، استشعر كل تلك الكلمات المستوقفة في ذهنه و في حلقه .

ألمقه بإبتسامة جافة  كأنها تقول .

نحن في إنتظارك ، كل هذه المدة من أجل تغيير ملابسك . 

حاول تدارك الأمر ،  مشى بخطوات مسرعة ، و أخد 

يخدم الزبائن،  الواحد تلو الأخرى،  و يصطنع الإبتسامة على شفتيه ، و هي لا تعكس ما يسكنه ،  و  شيء ما في  دواخله يحاول تعديل نفسيته ،  في إتصال غير متوقف مع ذاكرته، ينبش دون توقف كأنه يريد تعديل شيء ما مستوقف حزين لسنوات خلت . 

كان يحاول أن يستحضر ذلك اليوم المشمس الحار بأجوائه الصيفية ، و بكل أثعابه . كان يحاول أن يتذكر صورة معلمه في البناء بكل تعابيرها الشاحبة  لإستعادة  شريط الحوار  بأذق تفاصيله الذي دار بيهم خلال ذلك اليوم .  

كانت كلماته لا تزال مرسومة كأن الذاكرة تخزن إلى الأبد كل تلك الكلمات التي تصيبنا في العمق .

نظرا مطولا في عيونه بعد أن استنفد كل ما في جعبته من كلمات عن موسمه الدراسي الفاشل ، عن كل خيباته ، عن كل إخفاقاته،  عن كل إنكسارته الداخلية ، و عن خوفه من الفشل في السنة المقبلة  . 

تفوه قائلا بعد أن أطفأ سيجارته ، و أفرغ ما تبقى في فمه من دخان محاولا مص شيء من السواد الذي يأكله .

إن شاء الله غادي تنجح يا ابني ، و لا ما نجحتيش راه عندك (الكاطريام) الثالثة  دير بها تكوين المهني .

شعر بشيء من الإنتشاء و هو يتذكر تلك الكلمات ، و تنفس نسيم الأريحية أنه تجاوز تلك المرحلة بسنوات ، و تحركت الأحرف الذابلة على محياه صانعة الإبتسامة على شفتيه ، و كل ما يجول في ذهنه من أفكار يعتبر أن ما يعيشه اليوم ما هو إلى حلقة نحو ظروف حياة أفضل في الأفق . 

ناول ما تبقى في حوزته من طلبات ، و خر جالسا  فوق إحدى المقاعد ، وضع كل في ما يديه  ، الصينية ، علبة السجائر ، الولاعة،  الكؤوس فوق إحدى الطاولات بجانبه .

جلس لي يستريح و لو لدقائق معدودة . تأهبت عيونه لعناون إحدى الصحف ، أثاره الفضول  ، ذهب نحوها بتلهف ، و حب القراءة يخفق في قلبه ، حملها بتودد و عاد إلى مكانه . 

تحسس بعيونه كل العناون البارزة على واجهة الصحفية،  تذوق مضامينها و أخد يفتش بين صفحاتها عن شيء يلهمه على القراءة وسط زخم الأخبار اليومية .

شد انتابهه أحد العناوين في ضفة الصفحة الثقافية .

" لماذا نكتب ؟  " قرأه عدة مرات ، توقف عند كل الأجوبة المحتملة في ذهنه لهذا السؤال .

تغاضى عن كل تلك الأجوبة التي استحضرتها مخيلته لهذا السؤال ، و أخد يقرأ بحب و شغف ، و يتوقف بين الفينة و الأخرى و الابتسامة مرتسمة على محياه عندما يصيب الكاتب شيء ما عالق دون الإجابة في دواخيله ،  و تستفيق عيونه محدقة في المكتوب عندما يبعتد الكاتب عن تلك الأسباب التي يعتقد أنها المحرك الرئيسي للكتابة  .

وضع الجريدة جانبا و نهض لخدمة بعض الزبائن ، تحث وطأة عيون مالك المقهى ، كان يسترق النظر إليه و هو يطالع الجريدة . أخد يلبي  طلبيات كل الزبائن ، و 

و خلايا عقله تشتغل دون توقف محاولة الإجابة على السؤال الذي كان يعتلى الصفحة التي كان يطالعها .

 كان يكتب العبارات في عقله و يخطها في جوارحه وهو منهمك في عمله ، يكتب و يعدل كما يشاء ، و تشاع على وجهه الإبتسامة عندما يجد ضالته في إحدى الإجابات التي طبخت داخل عقله . 

فر بسرعة بعد إنهاء عمله ، ترك كل ما في يديه ، و نزع بدلة العمل من فوق جسمه ، أخد يفتش داخل حقيبته عن قلم و ورقة ، و جلس فوق سريره ، و أخد يكتب كل تلك  الكلمات التي خطها في عقله .

نكتب لأننا في حاجة للبوح بكل ما في دواخلنا ، بكل ما يختلجنا من أحاسيس تجاه الآخر ، نكتب من أجل أن نعيش ، من أجل أن نستريح  ، من أجل أن نطوي صفحات الماضي ، من أجل التخلص من كل ما يؤرقنا .

[  ] تم توقف لهنيهة و أخد يلولب القلم ما بين أصابعه ليعود و يكتب .

نكتب من أجل أن ندفع تلك الغيوم الجافة لأن تمطر لأن تبتسم بعد طول العبس .



الكاتب المغربي / إسماعيل بخوت يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "ناذل المقهى"


Share To: