الكاتبة المغربية / سكينة وبولمان تكتب قصة قصيرة تحت عنوان "حدث في كانون الثاني" 




 ما يتبقى لآخر ليلة من ليالي كانون الثاني العاصفة  سوى ساعتان ، هي نفس الليلة التي استعارها من شباط لكي يقتل عجل العجوز المسكينة، بعد محاولاتها العديدة لكي تخفيه من غضبه القاتل ...

هذه هي الحكاية التي كانت جدتي تخبرني بها في كل شتاء، هي أسطورة تشاع كثيرا في القبائل الأمازيغية . 

كانت ليلة ككل الليالي الكانونية،  لقد بدأت السماء تستخدم كل أسلحتها الشتوية، مطر واهن يعمر المدينة الصغيرة وفي كل دقيقة يزيد من ولعه بالتشبث بالأرض، و رياح ثقيلة هوجاء تتهيأ لإنفجارتها العظيمة ورحلاتها العديدة، و رعد يهز أرجاء المعمورة و برق يضيء زقاق البلدة الشاغرة، الشارع البليل الصغير أمامي خال من أي سيارة أو مارة لم يعد يفتح أبوابه سوى للقطط و الكلاب الضالة، التي تظل تنبح إلى أن يظهر الخيط الأبيض من الأسود، تلك التي اتخذت من تحت الأشجار مأوى لها ، و أخرى تظل تنهش الأرصفة جيئة و ذهابا، يبدو عليها الاستسلام و لربما اللامبالاة هذا الجو العصيب لايرحم هاته الأرواح الصغيرة، تماما كما يفعل بي أيضا ..، في حين أشجار الصنوبر قد استغلت الوقت لتكمل قصة عشقها الشتوية  وبدأت تتراقص مع أعمدة الكهرباء على نغمات هذا الجو المشحون بردا .. بل رعبا . 

أعتقد أن ساحرة البلدة المجاورة الشمطاء قد ألقت بتعويذتها القاتلة على هذه المدينة المنطوية،  أغصان الأشجار بدأت تتكسر تحت وطأة غضب الطبيعة أو ربما الساحرة.

شيء مخيف سيحدث هذه الليلة هكذا أنا دائما أتفنن في التنبؤ المتوحش بالكوارث، كأنني أمتلك الحاسة السادسة قد تكون أذن أو عين ثالثة...، حسنا سأغلق النافذة البالية فقطرات المطر المتهاطلة بغزارة ترتطم بزجاجها وتحاول الدخول لغرفتي المبعثرة رغم قلـة موجوداتها سرير فتاة متشردة هنا، وأوراق ممزقة لتلك اليتيمة هناك، تحاول أن تبللها لتوقظها من سباتها الشتوي فهي قط لا ترى قطرة ماء لا صيفا ولا شتاء، لكنـها تفشل وتعلن إفلاسها، عندما تتلاشى تكتفي بتشكلة أنهار وشلالات صغيرة سرعان ما تنزلق في النافذة الخشبية ثم في الحافة الطينية حيث تكون الأرض أما وحضنا لها وملجأها الأخير.

يا إلهي لقد أصبحت أكثر برودة كأن السقف المرصع بالقصب وخشب الصفصاف أزيل عنها، للتو ذكرتني بمستودع الأموات ذاك في تلك الكوابيس ...            

غفوت للحظة ... فجأة كأنني سقطت في عالم آخر، عالم الأحلام و الآمال ... ثم فجأة استيقظت على شعور الأمن و السلام وعلى شفتي الزرقاوتين اليابستين وأناملي المموجة المتجمدة بردا ...،  وعلى كلبي العجوز وقطتي العمياء ...آآه كأنني كنت تحت رحمة فرعون الطاغية ، نظرت إلى ساعتي الحائطية المتكسرة كانت هدية وجدتها في أحد الخردوات ..عقاربها تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل، فتحت النافذة من جديد ، الحمد لله لقد تسلل الهدوء لهذه المدينة مرة أخرى ، للوهلة الأولى اعتقدت أنه لن يعود أبدا . 

خرجت لكي أتفقد أحوال الأرواح الصغيرة وفجأة لفت انتباهي ذلك الرجل المسن مجددا لا أدري لماذا اقشعر بدني فجأة ... توقفت أراقبه وأنا خلف شجرة الصنوبر المنطوية على خوائها الضاري و اخضرارها المقتول، وحيدة ومنطوية يتملكني الخوف و الشجاعة  و ربما الحب وأشياء أخرى من هذا القبيل ... اختلط علي الكل فجأة ولا أدري ماذا حل بي ، الشيء الوحيد المتيقنة منه هو أنني لا أكترث لتحذيرات السماء وهي تتوعدني مرة أخرى بحربها الثالثة، ألفت جبروتها منذ زمان ، لقد بدأ صرير أبواب الحارة يزداد جرأة، و بدأ جنون هذا الليل يكشف أنيابه الصفراء من جديد شيئا فشيئا، لكن لا أبالي فنظرة أسرقها من ذلك العجوز تغير هذا الليل وربما الحياة بأكملها أيضا، شعره الكثيف الأبيض ولحيتة الطويلة التي تغطي صدره تكسر سواد هذا الليل الحالك . 

لا أعلم لماذا دائما يسير وحيدا وبخطى ثقيلة لا يهتم لأي من المارة كأنهم غير موجودين، ولا هم يعيرونه اهتماما كأنه غير موجود .. قد يكون مستأجرا جديدا في أحد الأحياء في  هذه المدينة الصغيرة فكلنا هنا نعرف بعضنا البعض .. 

آه نعم بالفعل هذا هو الجواب، إذن فهو غريب هنا . 

عادة يتمتم بكلمات لايفهمها أحد أو يحمل سيجارة في يده اليسرى على الأرجح  يدخن لكي تغوص به في أفكار لا متناهية تنسيه هموم الحياة ... كم تمنيت أن أحدثه ولو لدقيقة ، وأعده بـأني سأختلس الساعات من أجله . 

لقد قعد على كرسي خشبي تحت أكبر شجرة صنوبر فهو الوحيد الذي نجى من هذه الأمطار الغزيرة،  وماهي إلا دقائق مرة كأنها ثوان و عيني لم ترمش أبدا إلى أن بدأ يرفع رجليه الثقيلة وطأطأ رأسه كأنه يئس من وضعه هذا ، لكن لماذا خرج في هذا الوقت المتأخر ؟ قد يكون هو أيضا أتى ليتفقد أحوال الأرواح الصغيرة ، أيعقل أن يكون هو أيضا مثلي يحب القطط ؟ هههه لا لن يكون كذلك، العجزة المملون أغلبهم لا يحبون القطط ، قد يكون خرج لكي يأخد جرعته من الهواء النقي ويهدئ روحه بهذا الجو الهادئ لكي يكمل صباحه بروح طفولية . ثم بسرعة البرق رفع رأسه وهو يضحك لقد أفزعني كثيرا لقد تغير فجأة ماذا حصل ؟ استدار عكس عقارب الساعة و بدأ يحدق في شجرة السرو التي اختبئت  خلفها ثم خرجت من وراءها ولوحت له بيدي وأنا أتيه في الإبتسامة التي لا تفارق شفتاه ، حقا الأمر أضحكني أكثر مما أفزعني ، أنا أيضا بادلته الإبتسامة . بعدما  عاد أدراجه وتأكدت أنه رحل عدت إلى بيتي، أي بيت غرفة منسية، لأكمل نومي ، وأي نوم بل غيبوبة قبل أن تمطر علي ،  وأي مطر.. بل أي رياحٍ وأي نـباحِ كلاب حتى ...



الكاتبة المغربية / سكينة وبولمان تكتب قصة قصيرة تحت عنوان "حدث في كانون الثاني" 


Share To: