الكاتب الجزائري / محمد بصري يكتب : اليزابيل ابرهاردت رحلة روح تائهة من روسيا إلى القنادسة بالجزائر.





تقول إيزابيل في رسائلها "ربما يكمن السحر المؤلم في اليقين المطلق للموت. لو كانت الأشياء أزلية لبدت لنا غير جديرة بالتعلق بها".

لا يمكنك أن تقرأ لأي كان وأنت مهوس بالتعصب المقيت ضد كل الأقلام الحرة التي تحترس من الهويات القاتلة. يكفي الإجهاز على مثقف وردم سيرته وتأبيده بالرزايا وإعلان كفره أو مروقه أو تنصله من القيم بجرة قلم .وقد تتمادى الاحكام الجاهزة عن جهل إلى تضليل الأديب وإعدامه اشتباها بإرتكاب الضلالة. الأحكام الضالة جاهزة دائما.إنه زيف يشبه الكهانة الإستباقية. إلى جانب دفن المثقفين والمفكرين والمعارضين أحياءا فالظلم التاريخي الذي صدر في حقهم عمد إلى طمر تراثهم ووجودهم وهو الأشد إيلاما .

إيزابيل ايبرهاردت تكاد تكون الشخصية الكونية التي عاشت أعمارا تفوق زمنها وقدرها الذي لم يتجاوز السبعة وعشرين ربيعا. الأديبة والرحالة السويسرية ولدت17 فبراير سنة 1877 وتوفت بشكل درامي غريقة بواد مدينة عين الصفراء بالجنوب الغربي الجزائري 21 اكتوبر سنة 1904 بعد أن أنهكتها حمى المالاريا .كتبت أكثر من 2000 صفحة هي بمثابة مقالات شذرية بسيطة تصف فيها هوامش رحلاتها ومغامراتها .الفارسة الرحالة ذات الشعر الاشقر والقوام القوطي الأبيض تركت روسيا بلد الأصل والمنشأ بعد تعب روحي وجحيم إجتماعي فالشك في نسبها إلى العائلة الارستقراطية فسح لها حالة ضياع أنطولوجي. فوالدها بالتبني الجنرال الروسي بول دي موردر قائد شرطة القيصر كان في صراع مع زوجته المتمردة وأسمها ناتالي دي موردر والتي تصغره كثيرا بالسن والتي يعتقد المؤرخون أنها ارتمت في أحضان حياة شبه بوهيمية ترقى إلى الخيانة الزوجية مع آلكسندر تروفيموفسكي القسيس الارميني الارثوذوكسي الذي تخلى عن مسيحيته ليلتحق باليسار الأحمر وبعدها إلى عدمي وجودي ثم ارتد عن أيديولوجيته وقيل إنه اعتنق الاسلام. كان ثمره هذا التمرد هو إنجاب "ايزابيل " الحائرة هوويا وذاتيا. إمتد شك هذا النسب إلى الحاقها أبويا بالشاعر الفرنسي العدمي جان نيكولا آرثر رامبو (1854/1891) الذي انتهى به الأمر صريع المرض في أفريقيا وهو المتهم بتجارة العبيد والنخاسة ورواية أخرى تقول أنه أسلم في جنوب النيل بمصر .

هذه التركيبة الاسرية الملتهبة لإيزابيل دفعتها للتحرر وهي صغيرة في سن 14 وأسهم ذكاءها في تعلمها لغات كثيرة منها الفرنسية واللاتينية والانجليزية والتركية والعربية والامازيغية هذا فضلا عن الروسية. لتنخرط في سفر طويل بدأ بتونس ثم مدينة عنابة بالجزائر أين استقرت مع والدتها وأخوها أوغسطين .أُعجبت الأسرة بسماحة الاسلام وأخلاق المسلمين وأعلنت التوحيد. بعدها تُرتب الأقدار حياة جديدة لإيزابيل التي اجتاحتها رغبة في اقتحام الفيافي وصحارى الجزائر.الغريب ايضا أنها تزوجت من الجندي الصبائحي والمترجم"سليمان أهني" لتنال الجنسية الفرنسية التي حرمت منها وطردت بعد أحداث ثورة 1899 بالجنوب .ويعزى تسكعها وتنقلها بين الزوايا والمساجد هو فقرها وضيق عيشها ونفاد مصدر رزقها وغربتها الطويلة .

تعلن ايزابيلا كما يحلو لي تسميتها إسلامها في الزاوية القادرية بواد جريد على يد العارف والأب الروحي للمؤسسة الموقرة صوفيا الشيخ الهاشمي بن ابراهيم القادري رغبة وشوقا وأهداها لباسه الخاص وسبحته وطربوشه وعمامته المشمولة بوقار المريدين والأغوات والأقطاب .وهو اللباس الذي كانت ترتديه دوما بصورة رجولية تفوق أنوثتها وأريحيتها كيافعة جميلة وشقراء جذابة وهنا يجب الإشارة أن تدثرها بلباس خشن لا ينتمي إلى عالم الجنس اللطيف هو جندريتها وتركيبتها الثقافية وليس البيولوجية فقد تربت على ركوب الخيل وهو ما علمه اياها الاب "فافا" القسيس خادم الاسرة وعشيق أمها ووالدها المفترض. فتوسُطها الطبيعي بين عالم الذكورة و الأنوثة كان غائيا وذو هدف ومشروط وربما تفطنت لمفهوم الجندرية مبكرا بما أنه ترتب عنه رؤية جديدة للحياة وللعلاقة مع محيطها أو هو أنطولوجيا رؤيوية جديدة لتفاهة الحياة التي أرادت ايزابيلا أن تخرج منها. إختيارها التخفي كان نابعا من لاوعيها المجروح وروحها التائهة نضالها ضد ركام البؤس الذي تشبعت به وهي طفلة منبوذة بين أسرتين بداية من النسب المشكوك نهاية بحالة الهيام والضياع في الجنوب الجزائري .لذا يبدو من العبث الإعتقاد أن هذه الفارسة الحالمة كانت تتسربل بأنوثتها الصارخة وتتوارى داخل الشكل الذكوري مستبطنة نيات سيئة كالجوسسة ونقل أخبار سكان الجنوب وحراكهم للجنرال الفرنسي "ليوطي" الذي كانت جيوشه تلتهم الجنوب الجزائري وتسحق المقاومة. وهو أمر يفتقر لدقة والتحليل التاريخي الصحيح.. فولعها أولا باللباس العربي ثم ثانيا سفرها وتنقلها بين الهضاب والوديان والدروب الوعرة والقرى والنجوع جعلها تتنكر في زي فارس بل دفعها إلى أن تتخفى تحت إسم مستعار هو"سي محمود السعدي".







يرجح المؤرخون دخولها للقنادسة بالجنوب الجزائري. بين سنتي 1903 و 1902 فقد اكتشف السكان المحليون شخصيتها بصورة طريفة ،فطريقة مشيها ولعبها مع الاطفال برمي حبات فاكهة الرمان إليهم وثنيها لرجليها جعل أحد الفلاحين وعادة كانوا من الأقنان أو العبيد الذين يعتنون بالأرض التعرف على شخصيها وسرها الانثوي بحيث نقًلَه إلى سيده الشيخ سيدي ابراهيم شيخ الزاوية وعميدها أنذاك في البلدة وقد ذكرت تفاصيل ذلك في روايتي "ايزابيل ابيرهاردت وباسيدي الفقيه".

إيزابيل نقلت أوجاع الجزائريين ربما كانت هذه الحالمة بجدائل شقراء النافذة الثقافية للأدب الكولونيالي المضاد فقد أحرجت نصوصها الاستشراق المركزي الغربي بتوصيفها آلام المجتمعات التي تعيش فظائع الاستيطان والاستعمار البغيض ،الذائقة الفنية لهذه الكاتبة جعلت قلمها يتحرك وفق مسارات صعبة وملتهبة في الجنوب الجزائري فكتاباتها عن ياسمينة الضائعة وحبها الممنوع ونهايتها المأساوية في ماخور حقير.وحكايتها التي تشبه التراجيديا المؤلمة عن سعدية وأختها حبيبة ورواياتها عن نحيب اللوز والنقيب وغيرها كلها كانت إحتفائية لامثيل لها بشخوص المجتمع الجزائري الذي عاش الهامش. كانت تكتب في جريدة حربية تنقل أخبار الشمال الإفريقي " La Nouvelle Revue Parisienne المجلة الباريسية الجديدة.وفي مجلة الادباء الفرنسيين LA Grande France فرنسا بالإضافة إلى رسائلها الحربية لجريدة الأخبار La Dépéche Algérienne. الكبرى.يعد كتابها "dans L’ ombre chaud de Lislam في الظلال الساخنة للإسلام أحد منتجاتها الثقافية هو بمثابة قُبْلة الوداع فقد وُجدت المخطوطة مشتتة بجانب جثتهاالتي جرفها الفيضان العرم وموتها المشؤوم وكان آخر ما انتشله الضابط" ليوطي".دُفنت ايزابيل في مقابر المسلمين "جبانة سيدي بوجمعة بالعين الصفراء وبجانبها دفنت الاديبة الجزائري"صافيةكتو".

سؤال أخير لو كانت هذه التائهة العبقة الروح جاسوسة لطالبت فرنسا بجثمانها .لكن جسمها البالي تحلل ليختلط برمال الجنوب والجزائر التي أحبته وأحبها فلروحها السلام.

محمد بصــــــــــــــــــــري





الكاتب الجزائري / محمد بصري يكتب : اليزابيل ابرهاردت رحلة روح تائهة من روسيا إلى القنادسة بالجزائر.

الكاتب الجزائري / محمد بصري يكتب : اليزابيل ابرهاردت رحلة روح تائهة من روسيا إلى القنادسة بالجزائر.


Share To: