الشاعر والناقد / السيد طه يكتب : دراسة نقدية للقصة القصيرة ( ظمأى )
كتب الشاعر والناقد الأستاذ السيد طه :
مع سمير لوبه .. ورائعته "ظماى"
تمهيد ..
منذ أن تشرفت بصداقته وانا أتابع أعماله عن كثب وأقرؤها على مهل وبعد فراغي من قرائتها أحدث نفسي كيف لي أن أعلق على قصصه وإبداعه .!؟ هل أكتب تلك التعليقات سابقة التجهيز والتعليب التي نكتبها على أي عمل أدبي منشور !؟ ثم أرى بيني وبين نفسي أنه من الإجحاف لهذا الإبداع أن يكون رد فعلي عليه بهذا المنطق "المعلب" وان التقدير الحقيقي لهذا الإبداع أن يكون لكل عمل منه دراسته النقدية الخاصة به . والحقَّ أقول أنه كثيراً مااحتفظت بإحدى هذه الروائع وآليت على نفسي بضرورة الكتابة عنها ولكن تشاء الأقدار وتأتيني بما يشغلني عن ذلك حتى استوقفتني "ظماى" وتشبثت بتلابيب وجداني وأقسمت عليَّ ألا تغادرني دون الطواف حولها والتعبير عن لقائها (قبل أن تتركنا وتغادر) فما استطعت عنها فكاكاً ولا أردت لها صوماً تكفيراً عن قسمها ولا سيما أنها "ظمأى" ورأيت قبل الولوج لرحابها أن أوضح أن مبدعها "لوبة" من الثراء الفكري والثقافي والمعرفي بمكان رفيع فهو ليس مجرد قاص له منتوجه الخاص من هذا النمط الأدبي النثري ولكنه ناقد بصير له رؤيته العميقة القادرة على احتواء واستحلاب النص الأدبي والغوص في جمالياته والالتفاف حول محسناته واستخراج فرائده وبدائعه اللغوية وتأويل رموزه وتفسير مغاليقه وقراءة مابين سطوره واستنطاق المسكوت عنه فيه وتدوين شهادة تصنيفه وانتسابه لمدرسته النقدية التي ينتمي إليها وذلك مما يشكل عبئاً "أدبياً" على كل من يقترب من إبداعه ويتعرض له بالقراءة والتحليل لأن "لوبة" لن يستقبل تلك القراءة بعين المبدع القاص ولكنه سيقرؤها بعين فكره وذائقته النقدية الرفيعة ...
********
لايجد المتابع لنصوص "لوبة" صعوبة في اكتشاف اتكائه على عاملين أساسيين في إبداعه القصصي "القصير" وهما الصورة الرمزية الشعرية والتكثيف اللغوي المعبر عن تصاعد الأحداث في غير خلل لذلك تبدو معظم قصصه وكأنها قصيدة نثر وهذا مايبدو لنا جلياً في "ظمأى" فالصورة تتبعها صورة والحدث يتبعه حدث في تلك الومضة الإنسانية الحزينة التي اقتنصها "لوبة" من واقع الحياة . وصاغ منها "ظمأه" في لحظة "برزخية" فارقة تعيشها امرأة حطمها رحيل حبيبها فأضحت من بعده رفاة كائن بشري انقطعت صلته بالحياة لتعلق روحه بمن فارقها ذلك الذي كان يملؤ عليها دنياها حباً وعشقاً واحتواءً بلغوا حد التماهي والذوبان والتوحد فكانا روحاً واحدة في جسدين ومنذ أن غادر أحد الجسدين الدنيا حاملاً معه نصف الروح أصبح النصف الآخر يعيش على خيال وذكرى النصف الراحل ويتحرى شوقاً للحظة لقاءه في الآخرة ..
********
على شرف إبداع "لوبة" أدعوكم لقراءة قصته القصيرة "ظمأى" ثم نستكمل حديث الطواف حولها ...
***********
في ليلةٍ أخرى من لياليها الباردةِ المكررةِ ، أمام المرآةِ هائمةً ، يخفتُ ضوءُ الحياةِ في روحِها ، تقطفُ عيناها بداياتِ الشيبِ ، ترمي بناظريها صفحةَ المرآةِ سابحةً فيها ، تغوصُ في أعماقِ عينيها ، تنتابُها الآلامُ ذاتها ، لا تغادرُ سماءها غيومُ الأسى الملبدةُ ،يتحجرُ الدمعُ في مقلتيها،تتمزقُ روحُها أشلاءً ،في توقٍ تنتظرُ حضورَه ؛ ليعزفَ على أوتارِ حنينِها الجارفِ،ويسكبُ في كبدِها عواطفَه،ينسابُ في مسامعِها صدى صوتِه الحاني، تناجيه في فراغِ الصمتِ بوجدانٍ تتقاذفُ شظاياه الملتهبةُ ؛ تحرقُ فؤادَها،تثورُ حناياها شوقاً لعناقِه الدافئ،يحرقُ مهجتَها جمرُ الحنينِ ،يؤرقُها لظى الاشتياقٍ ،ليتهشمَ ما تبقى في ضلوعِها المحطمةِ ، تناجي طيفَه دونَ جدوى ، يضاجعُها الأنينُ وألمُ الفراقِ ، تضيعُ في دوامةِ القدرِ ظمأى ، لا يروي عينيها لقاءٌ ، يدقُ نبضُها عظامَ الضلوعِ ، ترنو للأفقِ ، ترهفُ السمعَ ، تتبعُ قوافلَ الصمتِ في دروبِ حياتِها القاحلةِ وسطَ عواصفِ الحرمانِ المبعثرةِ ، يقتلُها ظمأُ الانتظارِ ، تتعجلُ اللقاءَ ...
رؤوسٌ تتلاصقُ ، عيونٌ تتفحصُ ، همهماتٌ تتشابكُ :
- إنه جسدٌ قد فارق الحياةَ ..
*********
بداية كاشفة للحالة النفسية الإنسانية التي استغرقت "المرأة" موضوع القصة تنتهي جملتها الأولى بمفردة "المكررة" ثم يتبع تلك البداية مايؤكدها من ديناميكية الفعل المضارع وأثرها في تصاعد مشهدية الأحداث المتوازية مع الصورة الشعرية الناقلة للفيلم التسجيلي لمسرح "اللحظة البرزخية المعاشة" التي تمخضت عن ثلاثين فعلاً مضارعاً بدأت بهم مشاهد تلك الأحداث (يخفف/ تقطف/ ترمي/ تغوص/ تنتابها/ تغادر/ يتحجر/ تتمزق/ تنتظر/ يعزف/ يسكب/ ينساب/ تناجيه/ تتقاذف/ تحرق/ تثور/ يحرق/ يورقها/ يتهشم/ تناجي/ يضاجعها/ تضيع/ يروي/ يدق/ ترنو/ ترهف/ تتبع/ يقتلها/ تتعجل/ تتشابك) حتى تصل للفعل الماضي (فارق) الذي يسدل الستار على اللحظة البرزخية لتلك المعاناة الدرامية المأساوية المغلفة بالرومانسية السوداء التي استطاع "لوبة" أن يجسدها بابداعه من خلال لغة بسيطة مستساغة سهلة الاستقبال لمعظم شرائح القراء مستعيناً بعدسة تصويره التي اخترقت كوامن النفس البشرية المعذبة ورسمت أبعادها الظاهرة والباطنة بقدرة إبداعية رفيعة المستوى جعلت القارئ يتعايش معها ويشعر وكأنها حدثت معه . ناهيك عن مهارة "لوبة" العليم بتكنيك القصة القصيرة كعمل أدبي نثري له خصائصه الفنية التي تميزه عن أترابه من أنماط النثريات الأدبية الأخرى بالتكثيف والإيجاز ووحدة الموضوع وفردية الأشخاص وسرعة التصاعد بالاحداث التي يستشعرها القارئ في الجمل القصيرة المتتابعة من البداية حتى النهاية دونما ملل ولا خلل . ليثبت لنا "لوبة" أنه قاص من طراز فريد متمكن من أدواته قابض على خيوط نمطه الأدبي الذي اختاره ليكون فارساً من فرسانه الحاجزين لأنفسهم مقعداً خاصاً بهم في فردوس القصة القصيرة .!!
***********
الشاعر والناقد / السيد طه يكتب : دراسة نقدية للقصة القصيرة ( ظمأى )
Post A Comment: