قراءة نقدية لرواية "ظلام منحوت" للكاتب التونسي الشادلي القرواشي.

بقلم الكاتب التونسي عبد الرزاق بن علي.



ككلّ كتابٍ نقرأه لابدّ أن يعلق في الذّهن منه ما يعلق ويسترعي الاهتمام والتمحيص. و كلما قرأت كتابًا استعد تماما لسبر أغواره ضاربا عرض الحائط كل ما سمعت عن الأثر ومن ألفه حتى أكون أقرب ما يمكن من الموضوعيّة، فإن كان ما قيل نقدا أو انتقادا، مدحا أو ذمًّا فذلك لن يؤثّر فيَّ قيد أنملة حتّى أكتشف الكتاب عن قرب وبعدها لا أرى مشكلًا إن استأنستُ بما قد قيل قبل ذلك أو سلكت طريقا آخر في البحث و التحليل .

في اعتقادي، كما الكاتب الذي يكتب ما يختلج في نفسه دون أن يهتم بما سيقال بعد الانتهاء من كتابته، فالقارئ لابد أن يساهم في انتاج المعنى والإدراك بعيدا عن الاجترار والانصهار التّام في آراء الآخرين التي تحتمل من الصّواب مثلما تحتمل من الخطأ عملا بقانون النسبية في كل أمر.

يبث القارئ في النص المقروء من ذاتَه و وجدانه وتجاربه. كم من رواية قرأتها قيل عنها الكثير فنيًّا وجماليا وموضوعا لم تستهو خاطري ولم تثر قريحتي (وهذا ليس استنقاصا بقدر ما هو حكم "الذوق" ) وكم من كتاب حكم على بساطة طرحه ومحتواه وجدت فيه من المعرفة والإبداع ما لم تلاحظه الأعين.

عندما وصلني كتاب "ظلام منحوت" للكاتب الشاذلي القرواشي ( شاعر وكاتب تونسي، من مواليد تونس العاصمة ( أكتوبر 1965)، له تجربة الشعرية و ادبية متميزة صدرت له عدة اصدارات :

· بردة الغريب ( 1998).

· ظلال الحروف الرائية ( 2003).

· الارتفاع الأملس (2009) .

· و ظلام منحوت.. )

لم أكن قد تشرفت بعد بمعرفته إلا من خلال ما سمعتُ عنه من بعض الأصدقاء أو وسائل التواصل الاجتماعي.

تناولت الكتاب بجدية ككل الكتب التي قرأتها فالعنوان يبدو أنّه حمّال أوجه ودلالات. اختار الكاتب عنوانا لا يخلو من الغرابة " ظلام منحوت" ، إذ جمع بين مفهومين ينتميان إلى ثنائيّة المجرّد والمحسوس . فالظّلام كعنصر من عناصر الطبيعة الذي يعود وجوده إلى بداية الموجودات وهو متجذّر متأصّل قدم الوجود رغم بعده اللاّمادي. وهو أيضاً الضّلع الثّاني من ثنائيّة الظلمة/النور إذا سلّمنا بقيام الكون على قانون الثنائيات بالضّرورة. فلولا النّور ما كانت الظلمة ولولا الظلمة ما كان الحديث عن النور.

أما الغرابة فتكمن في جمع الظلام مع المفهوم الثاني "منحوت" بما هو فعل مكتسب رغم بعده التاريخي الذي عادة ما كان للبشر تدخل مباشر فيه مثلما أخبر بذلك القرآن في قوله :

"وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ"

(الحجر – 82)

فالنّحتُ عمليّة معقّدة تتطلب معرفة ودراية عالية . فنسمي من ينحت التماثيل والمجسّمات "فنانا" اعترافا بأن ما يفعله لا يمكن لغيره من عامة الناس فعله، بعد جهد ومعاناة تستمر شهورًا أو ربّما سنة كاملة حتى ينحت عملا فنيا واحدا.

كما للطبيعة دور مهم في تفسير مفهوم النحت ،فالمياه تترك آثارها على أديم الأرض مهما كان قاسيا صلبا فتنحت الأودية والأنهار والأخاديد الشّاهقة والشّعاب الوعرة...

رغم الجمع الغريب بين الظّلام والنحت لكن بشيء من التأمل نجد ان هذا الجمع بين المفهومين لا يخلو من منطق وتجانس.

فالظلام يحتاج إلى جهد عظيم حتى يستحيل نورا (تداخل عجيب بالضرورة بين عناصر الطبيعة حتى نرى الظلام ) كما النحت الذي يشترط رباطة الجأش والحسّ الفني والإصرار حتى يستوي الشيء عملا متكاملا.

لم يختر الكاتب في نظري عنصر الإبهام منهجا لروايته منذ البداية رغم ما احتواه العنوان من غموض بل سيتمكن القارئ منذ البداية من معرفة معنى الظلمة أو لنقل دائرة التفكير قد انحصرت في منهج محدد منذ أن تعرف أن إحدى الشخصيات الرئيسية هي فتاة كفيفة . لكن كيف يكون الظلام منحوتا ؟ وأي محمل يمكن للظلام ان ينحت عليه على غير هيئته التي نعرف ؟

أرى أنّ الكاتب قد أعاد النظر من جديد في علاقتنا بعالم المكفوفين أو حاول الولوج إلى أبعد الحدود التي رسمناها بين المبصر والكفيف وزعزعة معارفنا . فهل من حدود حقا وإلى أي مدى يمكن القول بلا محدودية المعرفة ؟

من أهم المواضيع التي تطرق إليها القرواشي في هذا الكتاب هي المعرفة، بما هي الإدراك و الوعي وفهم الحقائق عن طريق العقل المجرّد أو بطريقة اكتساب المعلومات اعتمادا على القريحة ومراكمة المعارف ، و "يقال عرف الشيء أي أدركه بحواسه جميعاً أو بواحدة من الحواس" ، ويقال "عرف الشيء أي حدّد معناه بتعيين جنسه ونوعه وصفاته " (من معجم الوسيط) .

أما اصطلاحا فالمعرفة هي العمليات العقلية التي يقوم بها الانسان للفهم من ادراك و تعلم و تفكير و اصدار احكام...من خلال عملية التواصل بين الشيء و بيئته. (نفس المعجم)

لئن تعددت انواع المعرفة ، من "معرفة صريحة" بما هي جمع البيانات حول الموضوعات بشكل منهجي، أو "معرفة ضمنية" يتم اكتسابها من خلال اكتساب المعرفة الصريحة وتوظيفها في مواقف معينة و تخضع الى مراكمة التجارب اعتمادا على المعارف الصريحة. سيكون النوع الذي سنحاول ان نسلط عليه الضوء هو نوع "المعرفة المجردة" معرفة غير ملموسة يصعب تفسيرها وهي بذلك قريبة من المعارف الذاتية لا الجماعية.

رغم اختلاف التيارات الفكرية والفلسفية بين من يقول بعلوية المعرفة العقلية ومن يقر المعرفة الحسية وخاصة البصرية كمصرد للإدراك. أرى إن القرواشي ذهب بنا بعيدا حين جعل من الفتاة المبصرة "سارة" تخوض تجربة العمى كمحاولة لفهم و اكتشاف العوالم الخفية التي تعيش فيها صديقتها وزميلتها في الكلية "رتاج" الكفيفة .

وهنا تحولت سارة من المعرفة الصريحة (معرفتها المسبقة بمعنى العمى) الى المعرفة الضمنية في محاولة لتوظيف المعرفة الصريحة وخوض التجربة بمفردها. لكن ماذا اذا كانت هذه المعرفة تدور في فلك المجرد والبحث فيما يصعب تفسيره...

لم تكن سارة تتأخر في طرح الاسئلة على رتاج وكانت هذه الاخيرة تجيبها بكل ثقة وثبات، وربما بتفاصيل عادة ما تغيب عن المبصر وكانت تأخذ مناهج غير متوقعة في التحليل والاستنتاج وتصل لكنه الأشياء بطريقة عجيبة كما لو كان لديها مخزنا شديد التطور لمعالجة المعلومات. والمدهش أن كل ما تقوم به رتاج يخضع مسبقا الى نظام وترتيب صارم . فهي من تقول :

" إن اكثر ما يعكر صفو المكفوفين هي الفوضى، و بقدر ما يكون هناك خلل في ترتيب الاشياء بقدر ما يكون هناك خطر يتهددهم لأنهم يعيشون وفق نظام دقيق يهيمن على حركاتهم ولا يمكن تجاوزه البتة " (ص23) .

حين حاولت سارة ان تكون كفيفة وعصبت عينيها بعناية كانت الفوضى تعتمل داخلها وكثيرا ما كانت ترتطم بأثاث البيت رغم علمها المسبق بمكان كل قطعة منه في حين كانت رتاج تنتقل بسهولة وسلاسة فائقة داخل الغرفة وفي أي مكان . "فرغم الكتب العديدة التي طالعتها فإن سارة تعتبر صديقتها كتابا مختلفا في نظرها " (ص13) هذا الكتاب الخفي الذي لا اوراق فيه ولا اسطر بل كتلة مجردة من المعارف والنظم الدقيقة التي تكاد تكون ملموسة لدقتها حين تترجمها رتاج الى لغة .

) أعادت هذه التجربة الى ذهني حادثة تكاد تكون مماثلة إلى حد كبير ،حين التحقت بكلية الآداب بصفاقس ذات يوم من سنة 2006 كان "جاري " في المبيت و زميلي في قسم الفرنسية كفيفا ، أثار بسلوكه اندهاش الطلبة والاساتذة على حد السواء،... كنا (المبصرون) نتردد ليلا على غرفته حتى يملي علينا ما انتقص من الدروس، فهو لم يكن يفلت كلمة ولا فاصلة...وحين سألته عن سر هذه الدقة اللامتناهية، اجابني تماما مثلما اجابت هاهنا رتاج صديقها سارة ، " اعيش في عالم دقيق الحسابات و المعادلات و الاصوات و لدي ذاكرة تحفظ مواقع الاشياء و بمجرد ان أدخل الى مكان غريب لأول مرة حتى ابادر بالتعرف على جميع محتواياته... " ص 21 أما انتم المبصرون يتشتت تركيزكم باعتمادكم على حاسة البصر اكثر من غيرها من الحواس . "النظر يشوش الذهن " ص 23 )

لقد نجح في اعتقادي الكاتب في رسم ملامح شخصيات الرواية بدقة متناهية واختار البرورتريه المناسب ( ( le portrait لكل شخصية . لا أحد يخطر بباله ان يخوض تجربة العمى لو لم يكن فيلسوفا كسارة مثلا اذ لابد ان تكون متعطشا للمعرفة و صاحب نظرة عميقة للأشياء بعيدا عن المسلمات ،حتى تقوم ما قامت به . فكم من أعمى عرفنا في حياتنا ولم يثر فينا سوى الشفقة أو تصنيفه في خانة النقص. ...

مثل انقطاع التيار الكهربائي على المبيت الجامعي القادح الذي جعل الفكرة تراود سارة وتقرر أخيرا خوض التجربة دون علم رتاج بادئ الأمر حين توجهتا الى مدينة صفاقس التونسية لزيارة هشام صديق رتاج بعد تعرضه لحادث مرور كاد ان يعصف بحياته.

والغريب في الأمر ان سارة كانت تتحسس الامكنة كما تفعل رتاج وكأن البرمجة الالية قد اشتغلت واصبح لها نفس مخزن معالجة المعلومات الذي عند رتاج الكفيفة...

كتاب تداخل فيه المادي باللامادي، الحسي والذهني، العقلي والعاطفي... خاصة حينما سألت سارة صديقتها عن مفهومها للحب والمشاعر وهل لهما في وجودها حيزا ؟!

فإن كان المبصر يعول على ادراكه البصري كعنصر اتصال أول بين المحبوبين فكيف لمن هم دون ذلك ؟

ان اردنا ان نفك اللغز لابد ان تكون لنا القدرة على تمثل عالم آخر موجود بالضرورة ،عالم كامل متكامل ،ربما تسمى فيه الاشياء بنفس اسماء عالم المبصر بيد ان المفاهيم والمعاني وربما الصور الذهنية لا يدرك كنهها ألا من كان كفيفا . وهنا علينا ان نتبع منهج الأمام الغزالي. " كان مما كان مما لست أذكر ،فظن خيرا ولا تسل عن الخبر .... بل هو نور قذفه الله في صدري. " ...

وما سفر سارة إلى ألمانيا بعد انتهاء المرحلة الجامعية إلا تواصلا للمنهج الفكري الذي سلكته. في نظرها ألمانيا ماهي إلا بلد الفلاسفة والمفكرين ومنبع التفلسف والبحث. وما كان عليها إلا "لتغامر بكل شيء في سبيل ان تدرك كنه وجودها ، فبعدما سافرت لألمانيا كانت تحلم بانها ترابط في قلاع الافكار العالية حيث لا وجود لمتناقضات هناك...ولا يمكن التحدث عن الخطأ والحلال والحرام ، والعقل والجنون ،النور والظلام ..." (ص 154) وساعدها في ذلك صديقها "فيليب" ( Philippe) الذي ستخوض معه عدة تجارت و نقاشات فكرية عميقة قادتها الى اقصى مراحل "الجنون" وهو البحث عن وجودها من خلال الخروج الى الطبيعة ومحاولة التماهي معها والاجابة عن سؤال ، ما الانسان؟ خاصة بعدما كشفت لها تجربة العمى مفهوما آخر الانسان غير الذي كانت تدرك (من خلال التقليد والمسلمات)

في الختام كانت المفاجأة حين انقلبت الصورة وأصبحت رتاج نموذجا عكسيا لسارة بعدما اجريت لها عملية جراحية كللت بالنجاح وغادرت اثرها رتاج عالم الظلام الى الأبد والتحقت بعالم المبصرين. وكان عليها أن تدرك كما أدركت سارة أن عالمها الذي غادرت للتو ما هو إلا عالمٌ موازٍ تحكمه القوانين الصّارمة والنظم المحكمة لعالم اخر لا يقل تنظيما و دقة .

أريد القول ،أنّ هذا المقال ما هو إلا إضاءة بسيطة لكتاب فيه من الزاد المعرفي الكثير، وما هي إلا دعوة لقراءة هذا الأثر القيم .




قراءة نقدية لرواية "ظلام منحوت" للكاتب التونسي الشادلي القرواشي. بقلم الكاتب التونسي عبد الرزاق بن علي



قراءة نقدية لرواية "ظلام منحوت" للكاتب التونسي الشادلي القرواشي. بقلم الكاتب التونسي عبد الرزاق بن علي


Share To: