الأديب التونسي / أ. المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "نسيج العنكبوت" 




كان يتوثب لاقتناص اية فرصة من فرص الحياة الملتوية ، لينقض على الوليمة ينهشها نهش الكلاب المسعورة ، لم يتذكر من كلام والده الشيء الكثير ، حاول كثيرا كثيرا الظهور بثوب الاستقامة ، غير ان التيار السائد قد جرفه بقوة سيله و خليط وحله الرمادي ، فانطلق في ما يحسنه الكرسي من إلتفاف بغيض لا تفلت منه شاردة و لا واردة.

كل ضحاياه أولئك المخالفون المتعجلون للتسوية السريعة لأعمالهم المارقة،  و كان من خبرته يلتقط نظراتهم التي تتوسل إمضاء ورقة تردف في ملف سمين ..يتولى فحص الأوراق و يضع يده على خده و من فوق إطار النظارتين يرمقهم بنظرة سياف القانون و النظام ، فتهتز قلوبهم ،حتى إذا تملكهم صمت الأموات،  ارتفع مقامه و ثقل ميزانه و فتل لهم من خوفهم حبلا يقودهم به حيث يشاء  ، هناك ...الى مقهى  نسيج العنكبوت .

مقهى في زاوية قصية معظم روادها من الرهط الانيق ، يأتونها طلبا لاقتحام مراقد السلطة و قصف عظيم كبريائها ، تختلط فيها الاصناف من " شاوش" الى مدير  إلى مدير عام ... و كلهم في خدمة الشعب المترف جاها و مالا ..

ما هي إلا دقائق حتى يعم الفرح و تفتح المحافظ المنخنقة و يعلو شذى عطرها الفريد و تتنادى الأقلام و الاختام الى مشهد عناق سحري.

يعود صباحا إلى مكتبه متثائبا متثاقلا من فرط ما احتسى من "القهوة" النقدية ، يجول بعينيه في صفوف المواطنين القابعين بالمكان منذ ساعة ، دون أن يأبه لمعاناتهم، و بحركة اصبع يشير إلى عون المشرب طالبا قهوته المألوفة و يردف الى الداخل ..في حين يتزايد عدد الوافدين في الخارج.

تتحفز صفوف المنتظرين في حركة استعداد لقضاء حوائجهم لمجرد سماع صوت مقبض الباب يمسكه أحد الاعوان دخولا و خروجا ، و تمتد الرقاب الى الداخل في كل فرصة عسى المسؤول يستشعر وجودهم ثانية ...يبدو أن قهوة المسؤول لا تشرب على عجلة ، بل ترافقها بعض الموسيقى و اخبار الجرائد التي وضعت على مكتبه باكرا ..و هذا عليهم هين.

مرت الساعة الثانية من الحصة الصباحية و ضجت الافئدة قلقا و تعالت أصوات تستنهض الهمم و تشدو  بعصر الحرية و الديمقراطية و سيادة الشعب و أن المسؤول خادم مهما علا مركزه ... و كان من فجوة الباب يستقبل الشعارات مستمتعا و هو يمسك سماعة الهاتف القار بين كتفه و أذنه ، تارة مبتسما كأنه الغزل ، و طورا منتفخ الاوداج ،ماضغا شاربيه  ،كأنها الحرب .. بينما تتلاعب يداه ببعض الملفات التي كان قد وعد بتسويتها قبل غيرها .    

انهى مهاتفاته و ضغط على جرس النداء ،فسارع الحاجب إليه و دون إبطاء ،خرج  برسالة تلاها على الحضور : " السيد المسؤول حريص على خدمتكم و هو الآن في اتصال مع أجهزة الدولة العليا و ذوي الصلة، لإصلاح الخلل الطارئ في منظومة الخدمات الرقمية و ضعف تدفق الانترنات."

امتلأ المكان صخبا و تذمرا و ناحت بعض العجائز بصوت متعب متقطع لا يفهم منه الا بث لواعجهن الى الله ، و سرعان ما خمدت الاصوات و انسحب الجميع بجرح متجدد في سبابات اياديهم .



الأديب التونسي / أ. المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "نسيج العنكبوت" 




Share To: