الكاتب التونسي / أ. المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "بعض الوجع" 




تذكر طفولته الجامحة المتمردة الفقيرة ...و تهافتت في مخيلته صور الصبا و كيف ولج السوق غرا،يتدحرج بين سيقان الماعز و الخرفان.. 

الجو بارد ذاك الصباح ، تراه في ارتعاشة قطيع شد إلى حبل داخل سوق الاغنام ..تحركه بين الفينة و الاخرى أكف السماسرة الذين يمرون عليه لجسه و التمعن في نواقصه قبل محاسنه..و كان يستغرب من ميلهم و انصرافهم الى الهزيلة الجوعانة...

 تختلط مشاهد التحرر و العبودية في سوق الغنم.. و كالعادة يتخير مكانا تنفتح فيه زوايا النظر، يتأمل حافظات أوراق منتفخة تبرز من صدور تورمت شحما و أحزمة اصبحت عصية الملمح  من فرط الدسم ..و كلاما رائقا عن البيع و الشراء و الحلال الذي يزيد.. و صوتا يهلل و يسبح و يصلي على النبي الأكرم.. و أياد تجذب الحبل الذي يشد الدابة طالبة تسريحها بثمن قدره و حلف الراغب أن لا يزيد عنه،فالوضع بتصريحهم صعب هذه الأيام و السوق كاسدة...صاحبها بدأ يضجر منها فهي نهمة و الكلأ يشح في مواسم القحط ..يتردد قليلا و بسذاجة لا متناهية، يبدي تململا سرعان ما يردفه بمباركة البيعة، فحسبه أنه لن يجلب بعد اليوم علفا..هذا كل ربحه و تحصيله و منبع ارتياحه ..لا علف و لا شقاء ...باع القطيع و اشترى الفراغ..و تنازل لاجل ذلك عن هامش مهم في ثمنها ، فقد عاهد نفسه الا يعود بها ..

غير أن صوتها ظل يتردد في أذنيه طوال طريق العودة..و تمثل خيانته لها و لنفسه و لزوجته و اولاده الذين سينامون للمرة الأولى بلا ثغاء ...و ستكتشف الكلاب انها جردت من مهامها في الحراسة المخولة لها بمقتضى دستور الرعي .

قارب الوصول إلى حرم المنزل الممتد في حقل مسنود بجبل ،طالما كان مقصدا لشويهاته أيام القر..الحراسة على غير عادتها و الكلاب قد اتخذت كوم غبار الغنم مرقدا تفوح منه بقايا رائحة القطيع ..حاول احداث جلبة علها تنتبه، غير أنها اكتفت برفع رؤوسها و إحنائها بلا اهتمام يذكر.

شعر لبرهة أن الجو في الداخل كئيب و أشد قتامة ..نادى بصوته المبحوح "يا امرأة " ...سمعت نداءه لكن الصوت منها قد رق و اختنق ،فهي لليوم الأول لم تعلف غنماتها و لم تستنشق أنفاسها الساخنة و لم تملأ وعاء الحليب كالعادة و لم يقفز الجديان على ظهرها و هي تحنو خلف معيزاتها...اااخ ياااا لغربة المكان..

اقترب منها و استشعر حزنها الفائض من عينيها ... و ادرك ان بعض الحزن يلزمه التنحي و الانسحاب .تفهم أمرها و ادلف إلى غرفة تطل على الاسطبل و الكلمات مشدودة بين الحروف و الغمغمة ...حاول السير لإلقاء نظرة على المراح كعادته ، خاصة و انه عاش في الأيام الأخيرة على ولادة الإناث من القطيع ،و كان يسهر الليل كله متأهبا ليساعدها كلما تطلب الأمر ،مستعينا بخبرات السنين الطويلة مذ كان والداه على قيد الحياة.

تقدم متعثرا في حذائه الغليظ ليفتح بابا قده من اسلاك حديدية و بقايا ألواح و مما تخير من أعواد الزيتون الصلبة.. تسمر في مكانه و تغيرت ملامح وجهه و ارتعشت ركبتاه و خر على الأرض يتلمس أثر أقدام" الحمراء "و "السوداء "و" الصردي".. و تلك العنيدة التي رغم كرهه لسلوكها العدواني ،كان يشفع لها و يمسح على ظهرها لأنها ام ثلاث ذكرين و انثى ...و قد اعتادت التوائم منذ بداية عهدها بالولادة..

ضرب اليد بالأخرى و نزع عن رأسه شاشيته الفاقعة و لاحت صلعته و قد تصببت عرقا تبللت به شعيرات بيضاء على جنبات رأسه..حاول النهوض فلم يفلح ، و اتكأ على جدار كان بالامس المكان المفضل للفحل الاقرن يفرك عليه صوفه المترامي ...تاه في رحلة التذكر حتى تزحزح إلى أرضية الاسطبل و نام ...و لم يستيقظ الا على صوت الأولاد يتحلقون حوله و الفزع يهز أفئدتهم الصغيرة.

لم يكن بالإمكان رتق الشرخ الكبير الذي احدثه ، بات ليلته الأولى دون أن تتضمخ يداه بعطر الرعاة و هم يفصلون الصغار عن امهاتها..لم يتمتع برؤيتها و هي تجتر شعيرا تحصل عليه بشق الأنفس من قرية مجاورة...

لم يكحل النوم جفنيه  الا  مطلع الفجر ..و للمرة الأولى منح نفسه فرصة  البقاء في فراشه إلى ما بعد شروق الشمس ...تناهت إلى مسمعه اصوات الجيران و ارتسمت في مخيلته صورة عودتهم محملين ببعض الحلفاء و الحشيش و حزم الحطب على رؤوس النساء ..سرت في جسمه رعشة ..أراد أن يراقب المشهد ...خانته دموع زوجته و هي ترمقه من خلف النافذة و قد أحضرت الغداء .

غداء اليوم لا رائحة له و لا طعم ، إذ لم يصحبه وعاء اللبن كالعادة و لا صحن الزبدة المألوف .. تظاهر بالانشغال  و حاول استدراج الكلمات من حلقه فما كانت سوى نهنهات مبهمة..

لقد انتهى به الطريق إلى الرحيل و لا زال يبحث عن سبيل و وجهة ...اقنع نفسه اخيرا بان لم يعد هناك موجب للبقاء في وكر كله ذكريات ..وكر القطعان و الافاعي و الفئران و اسراب النمل و الذئاب و الثعالب ...وكر تعدل فيه الساعات على مواقيت اكل الأغنام و مشربها...وكر اهله يعظمون مخاض النعاج و الماعز و يصغرون كرامة البشر و عللهم..وكر تتغير فيه المبادئ كل ساعة و تينع فيه رؤوس لتقصف أخرى ..لقد انهكه" التكتيك " و لم يستسغ التسريبات التي تأتيه من ميعاد الحانوت كل يوم ، عن اجواره و عراك نسائهم و كيف انهن يتبادلن الشتائم في غياب أزواجهن... شعر بقرف كبير لما آلت إليه أحوال الناس ..و قرر الرحيل.  

لقد بات الرحيل حلا لهذا الرجل المنزعج المتمرد على واقعه ..كان معجبا بشوارع المدينة و زينتها ، و لم يصادف أن زارها الا حين مرض أحد اقاربه و كان على عجل .

انتظر غروب الشمس ليفاتح زوجته الواجمة منذ يومين تقريبا بلا اكل و لا نوم ...جلست و الوجع قد تلاعب بجنان وجهها و الحزن يعقد لسانها و رمقته ببرود لم يعهده منها طيلة عقد من الزواج ... التفت جانبا كمن يبحث عن شيء ضاع منه و بسرعة فائقة لف السبابة و الإبهام إلى بعضهما في حركة بهلوانية و مررهما وراء شفته السفلى و استنشق بقايا الخليط السحري العالق في أصابعه و انهمك في عطاس مسترسل أنهاه بحمد الله و طلب الصلاح لزوجته و أبنائه. 

و راح يستعين  بعميق الكلام لبلوغ غايته و  اقناع زوجته الريفية مثلما كان يفعل كل مرة يضطر فيها الى تمرير امر يتعلق بالمشترك العائلي..أخبرها بأن لم يعد لهم مستقر في هذه الديار ..و أن عليها أن تحزم الأمتعة استعدادا إلى يوم الرحيل القريب .

لم تدر المسكينة ما تقول و اختلطت عليها الهواجس، فهي منذ أن زفت اليه لم تعص له أمرا و لم تخرج عن طوعه لحظة ..و كان هو يقدر اصلها و يثني على خلقها . و لهذه الأسباب و أخرى وافقت على ألم كأن النار تحتها .

تثاقلت المسكينة و كأن الكبر قد تمكن منها فجأة و بلهفة المفارق طلبت إمهالا لبضعة أيام، تزور فيها أهلها و تسقي شجيرات أمضت في خدمتها وقتا و هي تنتظر بشارة إنتاجها..من يدري لعل المقام يطول بعيدا و تثقل الأرجل عن زيارة الوكر و تشحب بعدها اشجار التين و الزيتون و العنب و اللوز...

و حان يوم سمعت فيه الزوجة صوت محرك الشاحنة يهز وسط الحوش الفسيح نافثا دخانا خانقا يسد النفس .. ارتبكت و تماسكت حين بادرها السائق  بالتحية ، محاولا بث الدعابة في الجو المشحون بالتوتر و القلق..اكتفت برد التحية و واصلت سيرها إلى قن الدجاجات التي حصلت عليها اخيرا في إطار برامج الدولة التنموية و كان أملها أن تعين زوجها بهذا المشروع الضخم ...ضربت الصحن بملعقة استعانت بها في سكب بقايا عشاء البارحة ، فهرولت إليها الدجاجات تتزاحم للفوز بحبة كسكسي .. تمت عملية احصائهم بنجاح في انتظار مجيء الجارة لتتسلمها بعد أن تلقت وعدا بالبيع .

لقد شارفت عملية شحن الادباش على النهاية ، وسط قهقهات متقطعة و لجلجة أشبه بصفير الريح ..

غير بعيد عنها كانت امها المسنة تقبع في مكان مشمس تتابع المشهد بقلب يتقطع و دموع تنساب مع خطوط تجاعيد رسمها الزمن ...اليوم تفقد أنيستها التي لا تكف عن زياراتها و لو بشكل خاطف كلما سنحت الظروف ..كانت تغلي لها ماء لتستحم على يديها ..و تحضر لها غالبا بعض ما تطبخه لأولادها و تطعمها كما يطعم الرضع ...كانت كلما احتاجت حضورها ، وضعت على حاشية من حواشي الزريبة خرقة قماش حمراء ، كافية لابلاغ النداء و تمرير الرسالة لابنتها كي تحضر ..و غالبا ما يكون وراء الخرقة إما حلول ضيف أو تعبيرة عن الاشتياق.

توافد بعض الاجوار في مشهد جنائزي اختلطت فيه دموع الحزن بكلمات الفراق و الوداع ..لكأنه اليوم الأخير...

شغل السائق المحرك و ركب الزوج الى جانبه اما الزوجة فقد كانت تطفئ لهيب اللحظة بتقبيل امها المسنة  ، و كانت كلما همت بالانصراف أعادت على جاراتها وصايا الخير بوالدتها.   التحقت بأبنائها في الصندوق الخلفي يتحسسون فراغا بين الادباش يقيهم نسمات الربيع المتقلب على طريق هي الأطول في حياتهم..طريق بلا روح.


الكاتب التونسي / أ. المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "بعض الوجع"


الكاتب التونسي / أ. المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "بعض الوجع" 




Share To: