الكاتب التونسي/ أ. المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "حصار "




..  مرت اشهر، اقتصرت فيها زياراته لبلدته على بعض مناسبات الوفاة ، زيارات خاطفة يقدم فيها واجب العزاء، و  يجتهد خلالها لرؤية بعض أفراد العائلة قبل ان يقفل راجعا في ذات اليوم إلى حيث ترك الاولاد و امهم ..

شوق لا زال ينبض في أعماقه الى ميعاد الشاي في ركن منزو من رحبة السمر عند أجواره في الأفراح و الاتراح، و حنين يمزق فؤاده إلى جولة صباحية في السوق الاسبوعية كل يوم جمعة ... و اتكاءة على أحد مرفقيه فوق كوم التراب الندي ،و اطلالة من قمة الجبل على القرية الرابضة بين اضلع مربع جبلي تحرسه أعشاش النسور ...و شويهات تقضم ربيع البوادي الزاهية...  

- "خويا !! ... يا عم .!!! أين ستنزل؟؟ ..".اهتز في مكانه و رفع رأسه متثاقلا  .. تظاهر بالحيوية و التفت خارجا يتفحص المكان و بسرعة أشار على السائق بالتوقف،  و من فرط غمه، لم ينتبه لانحناءته ،فقد  اصطدم بسقف السيارة و هو يتدرج هبوطا...كظم غيظه و ألمه ، و مرر يده على رأسه يتحسس أثر الضربة ...و واصل في اتجاه المحطة التالية.

لم يقطع سوى نصف الطريق ، و النصف الثاني كما في جذع النخل ، وعر يخدش الاذرع و الصدور  ... لا بد عليه أن يخلد إلى النوم كما اعتاد ، حتى لا ينتبه إلى سريان الرمال المترسبة على جنبات المعبد الفسيح..و لا حتى إلى الصمت المقيت الذي يخيم على ركاب الناقلة و يجثم على قلوبهم كما لو انهم سائرون إلى المقصلة..

يستسلم للنعاس بعد أن أوصى رأسه بالثبات على جهة واحدة دون غيرها ،  و كان- من فضل الله-سريع اليقظة في كل مرة تنخفض فيها السرعة إيذانا بقرب الدوريات الأمنية..و بعد زهاء الساعة ، يتراءى دبيب للحياة ترسمه أشجار الكاليتوس الباسقة ، و مدخل للمدينة يجمع بين سياقين : فوهة مدفع و قلعة علم و معرفة.

يلج المدينة ، و يخطو متمايلا إلى مسكنه ،ماسحا أثر الطريق براحتي يديه ، وبقفا سبابتيه يفرك عينيه لتزول عنهما ظلال الكآبة، مستعدا لوجع السؤال ..

عاصر شتى الأنواع في رحلته الزاخرة المزدحمة.. شق على صدور الصادقين و نهل من عطر أمانهم ، و ضرب بطرف عينيه في أصابع بعضهم و قد يبست على دينار تدوره و تلتقط له صورة قبل إنفاقه في قهوة سوداء ... تماسك بين جولات المنافقين المتبدلين مع كل موضع ... جال في أحضان الكرم بما عجز عن رده...ابتسم شاكرا غير ناكر..و حفظ للناس حسن سجيتهم و صان للمجالس أمانتها و قدر هيبتها و أقفل منافذها...لم يكن يحتاج إلى طرائق خطابية جديدة كي يتماهى مع المزاج العام هناك و لا إلى تصنع بعض اللفظ المحلي أو النبرة المميزة ، بل كان مكتفيا ،مستأنسا بصورة جبل شاهق و ظلال بواسق النخل و نعومة التراب و أكل طبيخ الحطب ،منتشيا بثغاء النعاج و الماعز و ولدانها و صياح الديكة و اسطبلات الانعام على أطراف المدينة الهادئة...و كان يتأبط حزمة  من المحاذير حتى يكون دأبه دقة الملاحظة و سرعة البديهة و التكيف مع واقع نحتته الطبيعة و قيم البداوة غير الغريبة عنه.  

كان  حاسما في امر الارتقاء بنفسه، باعلاء قيمة غيره،و كان يتوكؤ في طريق الحياة، على عصا الاستقامة و يحصن نفسه بكلمات الله التامات و حبل سميك تفتله الايام من شعره المتساقط...حبل يطول كل يوم...و فراغ في سطح الرأس يتسع ، حتى كأنه عاش قرنا.

..المكان هناك مريح و هادئ ، و كل الذين عرفهم، ألفهم و أنس صحبتهم ، و أصبح يشاركهم " الزردة "(الولائم) في الليالي المقمرة على كثبان الرمال ، يتسامرون بقلوب نقية و صراحة فريدة ،يتجولون بين  سطور التاريخ تارة و تارة في الشعر و غالبا في الطرافة و النادرة ...يمر النصف الأول من الليل و قد تزودوا بما شاء الله من خبز الملة المرفوسة في مرقها  ( المدغوجة ) ،و شربوا من الشاي الأخضر ما يساعد على هضمها..و قهقهوا حتى كأن الجنون أصابهم.

اما هناك، بين جدران المنزل ، فيقبع افراد عائلته ، على وتر واحد ليله كنهاره ، لا يخرجون الا لماما لقضاء بعض الشؤون من المغازة المجاورة ...و منها يعودون ادراجهم .

لم يكن مرتاح البال لواقع أسرته بعد عامين كاملين ، و شعر بذنب حيالهم ، فقرر عودتهم  إلى البلدة، ليتحمل بمفرده مشقة العزلة القاتلة..

لم يكن يعلم إلى متى سيطول مقامه هناك... عام ..عامان ..عشرة أعوام !!! ..مصير مبهم كليل شتوي حالك السواد ، زاد في منسوب الضغط  ...

رنات تنبعث من جواله بين الحين و الاخر .ينهض إلى وجهة غير بعيدة ..ألوووو.. كيف الحال ..؟؟ ...صوت خافت فيه انكسار فؤاد عصفور صغير ..و أنفاس حارقة تتسلل من فتحة صوت الجوال .. 

يعود إلى مجلسه قاتم الوجه ، تحاصره أسئلة صحبه أن لا بأس على العائلة ؟؟ .. يتسلح ببعض الجلد و الصلابة و يسبقهم إلى المنزل ، و إلى حين تفرق مجلسهم ، يكون هو قد ارتوى من ماء المقلة المالح ..فيرتاح هنيهة. 

كان يتحدث بحمد الله على النعم ،و كان كلما اسودت الدنيا في عينيه،يلجأ إلى مخاطبة أمه المسنة ، فتتساقط من كتفيه كل المتاعب و تداعب وجهه مسحة من النور المشع.. حتى جاء اليوم الذي ارتبك فيه نهج حياته ، لقد مرضت مرضتها الأخيرة و لا  بد من عودته السريعة..طار مع تباشير الفجر الأولى ليلحق آخر أنفاسها، انحنى على جبينها الباردة يقبلها و الناس من حوله يتصابرون..كان ذلك آخر المسامير التي يمكن للحياة أن تغرزها في قلب طفل عمره فاق الاربعين/...




الكاتب التونسي/ أ. المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "حصار "




Share To: