القاصة المصرية / فاطمة حمزة تكتب قصة قصيرة تحت عنوان "العائد"
سارت خديجة بين أبنائها، صاروا يضاهونها في الطول، لا يميز من بالطريق الأم من الإبنة فكلاهما في نظر المارة متقاربين متشابهين، وكان اليوم يوم عيد، ذهبت بالأبناء للمعايدة على الأقارب، راحت تطبق حديث الشيخ بالمسجد عن وصل الرحم وإحياء المودة والحب، تنقلت ما بين بيت العم والخال محملة بحنين، سارعت لبيت العم أمين أقبل عليها بالأشواق والقبلات فور رؤيتها وكان اللقاء متيمما بالحنين للأحبة ممن سبقوه الى العالم الأخر، لم تمر إلا دقائق يتيمة عاد بعدها العم أمين لطبيعته البغيضة، راح يسخر من خديجة، نظر للأبناء قال بصوت مستهزئ ان امهم كانت في القديم بليدة .. تكلم واستفاض شرح بجدارة كيف كانت خديجة متكاسلة مريعة، لم تعرف خديجة التصرف حينها بل ظلت صامتة شعرت بالحرج يتسلل داخلها، راحت تتهرب من النظر بعين الابناء، ودت لو تفر هاربة من المكان لاحظ الجلوس تعرق وجهها رغم الشتاء والعم مستمر في السخرية والاستهزاء، لامت نفسها على تلك الخطوة التي لم يكن لها بد، تذكرت شيخ المسجد، لعنته مرات بداخلها فهو من حملها على الود، تاهت بين طيات الماضي الذي عادت له مجبرة تراءت لها بين عينيها شرائط ضفائرها الصغيرة بالصف الثالث الابتدائي و تلك النظرة القبيحة من معلمتها، كرهتها، ترقرق الدمع بمقلتيها، تحسست يدها تألمت وذكرى عصا المعلمة تختلط بذاكرتها، حستها تلهب كفها الرقيق تركت أثارها خطوط حمراء على يديها الصغيرة، اعتقدت أن تلك المشاهد اختفت من ذاكرتها لكنها عادت فورا مع سخرية العم أمين، أفاقت وصوت ضحكته البغيضة يخرق أذنيها، وفي ذروة الحكاية، قطع الضحك صوت دقات على الأرض، انتبه العم أمين، راح ينصت لها، إنها دقات عصا رجل أحدب يعرفه.
اقتحم الرجل المجلس بدا مترب مغبر وكأنه جاء من سفر طويل، ظهر عليه هالة رغم انحنائه، جلس دون أن يُؤذن له، عم الصمت المكان وكانت نظرة العم أمين الحزينة له تنبئ عن معرفته القديمة به، إنه العائد من زمان بعيد، ارتسمت على محيا العم غيمة حزينة، ارتجفت شفتاه مثل رجفة طفل رضيع حرمته أمه من لبن ثديها.
هب العم واقفا، رأى في عين العجوز وانحناء ظهره وحشة الماضي الأليم، تراءى له في هيئته أيام صغره وصباه وشبابه، مر من أمامه ذكريات يوم تربى يتيم الأب تذكر كيف مرت عليه سنوات حياته متأرجحا بين قسوة الأقارب واستهزاء المعارف واستهتارهم به، لم يجد يوما مطبطبا مدافعا عنه في ظل بشر بارعون في انتقاء الكلمات الجارحة و أم ضعيفة لا تستطيع حماية أبنائها من شرور النفوس المريضة التي أحاطت بها، نظر بعين الأحدب صورته صغيرا وهو يصيح فرحا لرؤية عمه الذي فاجأه بأن نهره بشدة، استطاع يومها الركض وتجنب الركل والضرب لكنه لم يستطع تجنب اللعنات والسباب التي انهالت عليه من لسان عمه السليط، شاهد أمامه صورته صبيا يسعى للحصول على مركز متفوق بين أقرانه يعالج به نقص نفسه المحطمة، اغرورقت عينا العم أمين بالدموع وحياته تمر أمامه على أكتاف العجوز المحنية تراءت له عذابات سنينه ضاعت في السعي وراء الكمال الذي لم ينله قط، حاول ان ينهم من دنياه يحصد منها حاجته التي لم تشبعه يوما، انتابه شعور دائم ان الدنيا بخيلة معه لم تجود عليه إلا بمزيد من الألم ولم يحصد منها إلا الضجر، تألم وقضب حاجبيه لمشهد ذلك الأحدب يمرر أصابعه فوق اكتافه ينفض من فوقها عفارة سنوات من الجهد لم يلهمه قدره لأن يعثر بها على دواء لعلته..
مرت لحظات الصمت مملة رتيبة لملمت فيها خديجة شتات نفسها المبعثرة نظرت والأبناء للعم الذي طالت وقفته ينظر للفراغ، تألم الجميع لحال العم أمين وعيناه الدامعة الحزينة تفضح مأساته.
القاصة المصرية / فاطمة حمزة تكتب قصة قصيرة تحت عنوان "العائد"
Post A Comment: