الكاتب التونسي / أ. المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "وشم زائف"




تنامى لديه الشعور بتبدل الأقدار ، من مسالك الضيق و الضنك ، إلى فسحة الحياة المنتشية بشبابه الغض ..و من  بر أغبر أشهب إلى البنايات الشامخة و الحدائق المفعمة بشذى الزهر في كل الفصول، و الاضواء تزين السماء حتى كأن لا ظلام أبدا.

حلم بالطيران عاليا مع أسراب الحمام كل مساء على أنغام كوكب الشرق .. عزم على نزع ثوب الخجل و الوجل و الحياء و فك كل قيود الرقابة البدوية ..نسي الأرض التي روت عروقه و أنبتت له شواربا و لحية سوداء ، و أغوت فؤاده مفاتن المدينة الهيفاء ، فطواها طولا و عرضا ، يصل الليل بالنهار و النهار بالليل ، على صهوة شيطانه المستجد.

ضاعت ملامح والده الأبية و تاهت عبارات أمه و هي تخفي خوفها عليه من الصحبة السيئة ..تغير ملمس جلده و نبت له ريش ناعم و ابيضت بشرته و احمرت بعد أن كان أزرق الملمح، أشعث الشعر، متجهم الوجه ..

أصبح يتقن لهجة اهل المدينة ، و يبرع في رقيق كلماتها .. امتلأ جواله بأرقام و اسماء ندية نسائمية ، و تخلص من غليظ الحروف التي كان ينطقها مناديا أترابه بين هضاب الريف ..حلق شاربيه الطويلتين و ارتدى لباسا ضيقا ليظهر منسجما مع رواد المقهى المختلط. 

كان يتخير الرد على مكالمات دون أخرى،و سهوا منه ، تسللت مكالمة صديقه " العيدي " يدعوه إلى حضور حفل زواجه بعد يومين .

امتطى سيارة الأجرة،عائدا إلى بلدته لحضور حفل زفاف صديقه ..صفا ذهنه من لغط المدينة و هرجها ، فتذكر رفاق الصبا و حديث السمر على الربى الخضراء ، و منها خلص إلى وعد كان أعطاه لساكنة الحي الشمالي ، ذات انهزام ، أمام بريق ابتسامتها و حدة نظرتها.

وصل القرية و توجه إلى منزل العائلة ، و في البهو الفسيح نادى بصوت مرهف على شقيقه  الأصغر،  فهب كل من في البيت إلى استقباله و تقبيله و التشبث بتلابيله متلهفين  ، و كان هو يحرص عند كل احتضان  و عناق، على تعديل شعرات رأسه المثبتة بمحلول الجال ، و ينفض ملابسه خشية أن يشوبها  غبار سيقان إخوته و أثر زيت الزيتون على أصابعهم..

 لم يطل مكوثه مع العائلة ، إذ سرعان ما توجه إلى منزل صديقه السلطان ، ليجد الحركية على قدم و ساق ، ذبح و سلخ و شواء و أهازيج الصبايا و زغاريد النساء ..

تهادى بين الجمع و تمايل ، قبل ان يتخذ مكانه بجانب العريس يمازحه و يستحضر ما جمعهما من مغامرات الصبا و الركض بين الاحياء و كيف أعطى ، قبل سفره إلى المدينة،وعدا بالزواج  لساكنة الحي الشمالي   ...و في الاثناء كان العريس يتظاهر باستقبال المكالمات ، و يحتفي بالحضور ، دون أن يأبه لحديث صاحبه..

اندهش الشاب ، و زادت دهشته و اشتد عجبه حين علم أن ساكنة الحي الشمالي قد بصمت قبل سويعات بإبهامها جنب إبهام " العيدي". 

 ضحك بلا استحياء ، و عاد ليدس رأسه في جواله يخاطب سائق الأجرة بصوت متقطع أن:" احجز لي مكانا في رحلة فجر الغد."



الكاتب التونسي / أ. المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "وشم زائف"




Share To: