الكاتب المصري / محمد السعيد يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الدور الأخير"



 

قبل ثلاثة أعوام ،كانت داخلي رغبة ملحة في التوقف عن التدخين،  فقد كنت أدخن بشراهة،وقد أثر ذلك علي صحتي سلباً ،خاصة أني كنت أسكن آنذاك في شقة في الدور الخامس،في إحدى الوحدات السكنية القديمة في حي الزهور ، وكانت بلا مصعد إلكتروني، وكنت أجد مشقة في صعود السلم نظراً لكوني مدخن ذو تاريخ يمتد من عمر المراهقة حتي تاريخه،كنت أصعد الدرجات مرهقاً، وأضطر لعمل إستراحة لمدة خمس دقائق في الدور الثالث ، وأنا غابة في التعب، أكمل بعدها حتي الخامس  ، يحدث ذلك علي الأقل ،ثلاثة أو أربعة مرات يومياً ،إما للذهاب الإلزامي للعمل  ، إما لقضاء حاجيات البيت  ،وكان خروجنا، أنا والعيال، من الشقة قاصدين العالم الخارجي يشكل عبئا وهما كبيراً علي أنفسنا، كأننا سننزل ثم نصعد جبلاً، ناهيك عن حمل المشتريات وأحيانا العيال أنفسهم!. أما وجودنا داخل الشقة فقد كان يشبه وجودنا في قمة برج من الأبراج العالية في قلب المدينة  ، أو ناطحة سحاب في مانهاتن ،ففي الشتاء كنا نحس بالمطر وهو بضرب بقوة الجدران، وكأنه سوف يثقبها ويحول المكان إلي بركة مياه،وكان يزيد ذلك من شعورنا بالخوف والرهبة ناهيك عن الصقيع الشديد، أما في فصل الصيف،ومع شدة الحرارة ،كنا نحس أننا نعيش فوق كوكب آخر غير كوكبنا، وأننا قد نكون قريبين من الشمس نفسها ، حيث درجة الحرارة مرتفعة جدا.وقد كان وصولنا للشقة في الدور الخامس أشبه بالهبوط الاضطراري لطائرة في أحد المطارات، نتيجة لعطل فني لحق بمحركها ، تتسارع الأنفاس في إضطراب ملحوظ، مع قلق مشوب بحذر ،وتجحظ الأعين ،وتصاب بداء الذهول، والكلام يكون مقتضبا وعصبيا، ويختلط الحمد والشكر علي الوصول مع اللعنة والرفض علي الحظ والقدر، ونغير ملابسنا ،وندخل الحمام ونحن في حالة توتر شديدة،وقد تحدث مشادة كلامية مع زوجتي علي أتفه الأسباب ويعلوا الزعيق وتنهال اللعنات علي السبب المجهول الخفي وراء كل ما يحدث ،حتي نهدء و نشعر تدريجياً بإلاستقرار، ونعاود ممارسة حياتنا بشكل طبيعي، وأعود معها إلي المطبخ أكثر الأماكن التي أتردد عليها طيلة الفصول الأربعة، لإعداد كوب القهوة المعتاد،حتي إذا ما أكمل نضجه صببته وحملته معي إلي الفراندة  .وللفراندة حكاية خاصة معي كمدخن ، أولا لأن زوجتي في بداية زواجنا حملت في إبنتنا الأولي وكانت بسببه لا تطيق رائحة السجائر، واضطررت، أسفا،للتدخين في الفراندة، إلي أن وضعت طفلتنا الأولي، وأصبح الخوف علي المولود من الدخان أكبر، وأصبح معها وجودي في الفراندة معتاداً ومتكررا أغلب أوقات النهار ،وقليل من الليل، لأني كنت أنام مبكراً من شدة الإجهاد ،ثم كبرت طفلتنا قليلاً، وشعرنا بهدوء نسبي . عقدت بعدها أنا وزوجتي إتفاقا شفهيا علي إنجاب طفل جديد ليلعب مع أخته، ويكون لها سنداً،وتحققت الأمنية بأسرع مما توقعنا،وحملت زوجتي للمرة الثانية، وفرحنا كثيراً بالحمل الجديد، وأصبح وجودي في الفراندة مألوفاً للجيران، ولأصحاب الدكاكين من حولنا،وللمارة من معتادي دخول الحي ،للعام الرابع علي التوالي.كنت أتمني،من أعماقي،لو توقفت نهائياً عن التدخين، خاصة مع زيادة الأعباء المالية وإرتفاع سعر السجائر ،مما جعلني أعيش صراعات نفسية  ،فالتدخين يقطتع جزءًا كبيرًا من ميزانية البيت ،ويؤثر سلباً علي حياتنا، وبدأت حالتي النفسية تزداد سوءاً،وخيم الزعل وإحتل مساحة لا يستهان بها من شعوري بالحرية والرضا ،وكنت لا أعرف كيف أتوقف,؟ماذا أفعل؟ حتى بدأت أشعر بألم  في صدري يروح ثم يجيء  ، حتي  جاء يوم  شعرت بالألم يزداد، وكانت زوجتي تراقب عن  قلق وخوف ودموعها تكاد تسقط! ،ثم  نقلت للمشفي،وعملت لي  فحوصات طبية، ووضعت تحت رقابة أجهزة حساسة وعناية مكثفة ،وسمعت لأول مرة من الطبيب  عن  الآثار السلبية للتدخين.وتوقفت، فعلاً،  من يومها حتي يومنا هذا عن  السجائر، وأتبع علاجا من يوم دخولي المشفي إلي هذا البوم للضغط العالى ،ثلاثة أعوام مرت ،ولا أنسي أبدا هذا التاريخ.كان خوفي علي مستقبل أسرتي كبيراً جداً، وكان يتعاظم لدي الشعور بالمسؤولية عنهم ،ما جعلني أبتدع الطرق والوسائل لكي تنجح مسألة التوقف عن التدخين ،وسمعت نصائح المخلصين بالمشي نصف ساعة يومياً، والإستحمام في البحر ،لما لمياه البحر المالحة من تأثير علاجي إيجابي و مباشر علي الصحة العامة ، وأعتبرت حياتي في مرسي مطروح منحة إلهية.ومرت الأيام والشهور  ومر عام ،ولم أكن أصدق أن الحلم قد تحقق، وإن كان الشكل الذي تحقق من خلاله صعباً وخطرا. أما حياتنا في الدور الخامس فقد إستمرت بسلاسة وشعرت زوجتي براحة لقراري ذاك ، حتي سمعنا عن نية المحافظة  تجديد وإعادة إصلاح الأحياء القديمة ،ومنها حينا،  وجاء يوم وطلب رسمياً من الحي بأكمله الإخلاء. الحق أننا لولا طلب الإخلاء ذاك ما تركت الشقة ،فقد كانت تمثل لنا رغم المعاناة معاني جميلة وذكريات أجمل. وقد استأجرت شقة في الدور الأرضي ،ولم أكن أخطط لذلك ،ولم أعاني في البحث ،ولوخططت لذلك ما حدث أبدأ. أما رئاسة الحي وبعد مرور ما يقرب من العام والنصف فقد قامت بتسليم شقق الحي مرة ثانية بعد تجديدها إلي أصحابها،لكني لازلت في الدور الأرضي.!




الكاتب المصري / محمد السعيد يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الدور الأخير" 



Share To: