الكاتب المغربي / أحمد المودن يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "فقر يناير" 




لم يحزن العم عبد السلام يوما بمثل ما هو عليه اليوم...فهو الآن أشبه بمن يحمل جبلا فوق ظهره...يطوف ببيته الطيني البسيط، يفتح أبواب غرفه، ثم يغلقها بعنف...ينتقل لبيت النوم، يفتش أشياءه الخاصة وكأنه يبحث عن شيء شك في أنه خبأه يوما ما لكنه نسي مكانه. بعدها يلقي إطلالة على بيت " الخزين " فيراقب كمية الزرع، والقطاني، والتين المجفف به...يتنفس بصعوبة...يتأوه ، ثم يتمتم بكلمات مبهمة.

لم تُخرِجه من شروده سوى كلمات زوجته " رحمة " وهي تسأله بلطف:

- ما بك يا زوجي العزيز؟...ما عاد حالك يعجبني، فأنت شارد الذهن، كبحار من دون بوصلة!

فيجيبها عبد السلام، وكأنه كان بحاجة لمن يفرغ عليه مكنون صدره:

-  إننا نمر من عنق الزجاجة يا زوجتي، هذا ما كان يسميه الأجداد ب " عنق العام " ، كل ما كنت أدخره، صرفته في موسم الحرث. فمن أين لي بالمال  لأتسوق يوم غد؟...بيت الخزين أصبح شبه فارغ، يا زوجتي،  الأطفال بحاجة للكسوة، فكيف لا أحمل الهم بصدري، وأنا الذي أقايض سعادتكم بعزة نفسي؟

تغيب الزوجة للحظات، ثم تعود. ترتبِتُ  على كتف بعلها، والدموع تبلل خديها، ثم تُخرج صَرَّة من بين ثنايا ثيابها، مفرجة عن ابتسامة رقيقة، وهي تقول:

- خذ مجوهراتي هاته، بِعها، لنُكمل بقيمتها ما تبقى من هذا العام. إنها مُهري، أساعدك به كي نَمُرَّ من هذه المحنة يا عزيزي...وحينما تتحسن الأحوال، يمكنك أن تشتري لي مجوهرات أخرى، فَمُدَبِّرُها حكيم...

يعمُّ صمت قصير، تضيف بعده " رحمة " :

- أنت هو ذهبي وماسي. يكفيني حبك وابتسامتك يا نور عيني...

يضم عبد السلام زوجته لصدره بقوة، وكأنه فارس محارب عائد لأهله. يبتسم لها وهو يمسح دمعة تَسَلَّلَتْ من عينه، ثم يهمس في أذنها:

- كنت أعرف أنك معدن أصيل...شكرا لك يا عزيزتي. لكنني أفضل أن أتدبر الأمر بطريقة أخرى، فقد علمتني الحياة أن أقاوم الفقر  بالإرادة...نعم سأعمل في الحقول، أو سأصنع فحما من حطب الغابة. كما يمكنني أن أعمل حمالا بالسوق. المهم هو أن آكل من عرق جبيني، كي نَمُرَّ من فترة " عنق العام " بسلام...فلا تقلقي يا عزيزتي، ففقر يناير سيمحيه ربيع مارس بإذن الله..

حمل معولا على كتفه، وحقيبة ملابس بيده، وخبأ خبزا يابسا وتينا مجففا بجيبه، ثم خرج بعد أن ودع زوجته وأبناءه.

كانت " رحمة " تراقبه وهي تدعو له، والدمع يبلل خديها، إلى أن غاب عن عينيها. ضمت فلذات كبدها إلى صدرها، ثم أغلقت الباب خلفها، وهي تتمتم:

رافقتك السلامة يا نور عيني، ستعود سالما غانما بإذن الله.

بالمطبخ، وضعت الزوجة قِدْرا أسودا، مملوءً بالماء، فوق نار هادئة، ثم  أفرغت فيه صرة خبز يابس، وأضافت زيتا وتوابلا وملحا، كي تطعم صغارها، وكل أملها أن يكون زوجها بألف خير...


 

الكاتب المغربي / أحمد المودن يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "فقر يناير"


الكاتب المغربي / أحمد المودن يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "فقر يناير" 




Share To: