الكاتب المصري / رامي حلبي يكتب مقالًا تحت عنوان "إنتفاء التسامي الرادع"
في محاولة لتكريس إنسان يليق بالقرن الواحد والعشرين أشار الفيلسوف الأميركي"هربيت ماركز"، إلى ضرورة تحييد الإنسان عن الفكر القيمي التقليدي فيصير بإمكان إبن آدم القرن الجديد الكبير وحتى الطفل الصغير أن يغير أفكاره من زاوية جامدة إلى فكر أكثر إستهلاك....
وهي فكرة عبر عنها بضرورة (إنتفاء التسامي الرادع)، أي إلغاء القيمة المانعة لأفكار تُستهلك بسهولة وإزالة عوائق تحصر التصرف في الإمتناع عن المعيب أو المحرم مثلا، وتطلقه في مساحة المستطاع، فكرة في مقابلها يتم القبول بها كسطوة للإنسان الجديد حتى تصير عرف أو تقليد يكتسب تساميه، وهو أمر فشلت فيه الرأس مالية كمشروع للإستهلاك، إذ كانت السهولة في الطرح والسهولة في التقبل مجال فوضى لم يخلق للإستهلاك وثقافة الإستهلاك قيمة، لتحرم أشياء أو تعيب على أشياء فتكون لنفسها عرف، بل توسع المجال ليشمل فوضى شعبت للرأس مالية أنماط متصاعدة، يميزها الغلو ويقننها الهوى.
وهذا بالضبط ما أثر بشكل كبير في ثقافة الإنسان، الإنسان السهل أو المستسهل، فثقافته الجديدة لم تحدد له قيمة ما يرجع بها لأصل في شخصيته، هو يهوى الشيء فيسعى لتحقيقة، وهذا ما صنع أزمة عميقة في فهمه نفسه، ليسير في سراديب هو مدرك أنها دون منافذها، وهو موروث " نيتشوي" بحت، فكرته أن "صّر كما أنت"، لتؤدي بك الفكرة لمخالفة ماكنت عليه، بينما عالج الفكرة" لوك فيري"، ولأنه عالم تربية فبدأ من حيث يؤصل، وبأصل ثابت " لا إجبار في الإختيار بين أمرين بإستبعاد أحدهما"، بل الإختيار قد يكون بالربط بينهما، وأقول أنه لتلك الرؤية وجاهة، حيث أن الربط بين إختيارين يدعم منطق التوسط، وعليه يجب أن تطالب بإختياراتك التي تحقق توازنك، لا الإختيارت وحسب التي تطرح أمامك كمصيدة تؤرقك خلالها لحيرة ما بين الوقوف خارج السلب كمنبوذ أو الدخول في مصيدة الإستسهال والإستهلاك .
تسعى المجتمعات لتحقيق مصالحها الإقتصادية منها بالأساس كمبدأ للمنفعة، وكرست القوية منها لمغالطات كبرى منها إلقاء الصبغات الشاذة على مجتمعات أخرى لم تسير بعد في فلك الحداثة، فنجد الدكتور"المسيري" يعبر عن نظرة العلمانية للمشروع الإسلامي كأنتيك، وشرح أن القائمين على المشروع العلماني يحصرون هذا الكيان المضاد لمآربهم في هذا النطاق الضيق، من صور خبرية وفقط، مثل الشعيرة والطقوس، لا النظام والحياة، لأنه على عكسهم يؤصل القيمة قبل المكسب.
المخزي أن هذا العصر هو عصر إنحراف الطبيعة، فبعد التسليم بالإزمة والإعتراف بضياع هوية الفرد تجد أن الإنتاج المتجدد من الوصفيات يحقق للأزمة غلوها في المجتمعات، فيحصر المفكرين أو سوادهم الأعظم سياساتهم بين متأزم ومتطرف، كإختيارين للهوية، والمتطرف بطبائع الأحوال مرفوض ولاغي من الحسبان والتقييم، أما المتأزم والمتشكك الضائع هو المقبول على إستحسان بالغ، في كتاب المفكر الأمريكي والسياسي "هارلان كليف لاند"، " مولد عالم جديد"، يرى أن هذا العالم ممكن التحقق ووضع تصورا لهذا، بتحقيق نظام دولي مرن يتسع للأمن والتنمية والإدارة الإقتصادية وحقوق الإنسان ومسؤليات إختلاف الثقافات وهجرة الشعوب وحماية البيئة، والإختلاف في الأطروحة بسيط يشمل المزيد من المرونة فحسب مع إمكانية التحكم في نظام الشر، هذا الوجه البغيض الذي يعبر بالتطرف.
وعالم هارلان الجديد الذي ذهب له مع رهط محسوب من المفكرين لم يستطع إيجاد نظام الحظر هذا على الشر، وعدا أن يوفر هذا المنع وقع في مغالطة أخرى، أنه كما للنظام العالمي مصالحة والتي تحدده مصالح كبريات الإقتصادات المساهمة فيه، فإن لصغريات التجمعات الإنسانية مصالحها، الصغيرة والفؤوية الملحة، والتي في بعض الأحيان تفرضها سياساتها على تلك الكيانات الصغيرة والتي كذا في غالب الأحيان متبوعة بضغوطات أيضا سياسية من قبل الكيانات الكبيرة على الصغيرة، فنجد مثلا أن أنظمة الحكم في إفريقيا أو الشرق الأوسط دائما بحاجة الدعم إن كان سياسيا أو غيره، أو منح في حالة الضعف الإقتصادي، أو الإعتماد كليا على الدعم الآت من الكبير، ومن هذا المدخل تستسيغه الكيانات الكبرى في تحقيق مآرب الإمتياز، فإن كان من المنصف وصف ما يتم لقلنا أنه وفي الحقيقة يتم تزوير الصورة، إذ أن الدول الكبرى هي من تلقى الدعم من الكيانات الصغرى وهذا ما يضمن كبر الكبير وصغر الصغير.
فرنسا بإحتياطي نقدي هائل يوازية إحتياطي من مخزون الذهب ولا تمتلك منجما واحدا على أراضيها، بينما مالى ب880 منجما وتعاني بلا إحتياطي من الذهب، ولا سبيكة واحدة، وهذا يفسر العلاقة بين فرنسا التي تردع الإرهاب في مالي، ومالى التي دوما بحاجة لفرنسا....
إن معايير التوصيف مزدوجه وتلك المرونة التي يدعوها كتاب مولد عالم جديد، وإن دعم بمثليات عليا هي أمام تصرف الفرنسين عاجزة أن تكون على غير مرونة للفرنسيين بالتجول نهابين لثروات مالي وعاجزة أن تفهم الجندي المالي الحارث على منجم الذهب من سارقي وطنه أن تلك ثروته وثروتهم وأنهم ليسوا بسارقين ولصوص، وهو نسف أيضا لوصفيات الشر، فأيهما على حق فيكون من الخير وأي من بينهما على باطل فيكون من الشر، هي مغالطة إفهام يتصورها فكر المصلحة فلا يستوي الفكر.
كذا الكيانات الصغيرة غير المطمئنة إلا لإستقرارها الوجودي، وسواء بإنقلابات أو إنتخابات مزورة أو إقتراع ديمقراطي بممارسة سطوة المزاج العام، يجري طمس أي معنى للتسامي فيطال الوبال كل مشرب من تربية في مبتداها إلى تصرف جمعي منحرف، يقتضي سلطويها بالمنظور العالمي للمصلحة، كهدف إستهلاكي، فيستسهل التصرف ببطش وقمع، مستمدة صلاحيتها من رضا الكيانات الكبرى وتعاملها معها، بينما قد صدرت مرسومات منع العبودية، مازال العالم يتماشى ويجاري نفسة بمنطق السيد والعبد، وكلها حلقات فيكون سيد أصغر وعبد أصغر وهكذا وكل سيد تابع كعبد لسيد وكل عبد متبوع كسيد من عبد.
لا مشروع ناجع يخرج هذا العالم من وطأة إنحداره إلا مشروع التسامي الإسلامي، بالإنسان والموجودات، لكل شيء قيمته فيه، فهو المشروع الوحيد الذي غيبت فيه المطامع الإنسانية وجاء رادع للإنحطات البشري، ليس لأنه وحسب مشروع ومنهج ليس لأنه وحسب مشروع ومنهج من الله، ولكن كذا لأنه حورب من داخله وخارجه ومازال قائما يدعو لنفسه، لم يغير فيه أصل ولم يستطع أحد أن يميعه أو ينفي تساميه.
الكاتب المصري / رامي حلبي يكتب مقالًا تحت عنوان "إنتفاء التسامي الرادع"
Post A Comment: