الإسلام السياسي بين النرجسية الثقافية والواقعية السياسية. بقلم الكاتب الجزائري محمد بصري


 


تقول حنا آرندت  نقلا عن Hannah Arendt Center at Bard College كلية بارد "التفكير النقدي يعني دائما أن تكون عدائيا. لا توجد أفكار خطيرة لسبب بسيط وهو أن التفكير بحد ذاته مشروع خطير". حنا ارندت إلى روجر ايريرا 1973.

التفكير في حد ذاته مغامرة خطرة .فالزمن المشمول بالتأمل لابد أن يُنجب بنات الأفكار بعد عملية قيصرية  وفق أفق صراع وصخب ومخاض  داخلي يغمره الصمت.سرعان ما يتحول  هذا الخَرَس التأملي إلى سجال.عندما يخرج الفكر من قمقمه، يتحول إلى عفريت مصباح علاء الدين الشقي واللعوب ، وتكون المآلات مرهونة  بما ستفرزه قنينة هذا الجني .يغدو كل نقاش حول المسائل الدينية المعلقة سياسيا نوع من السجال المستحيل.بما أن النرجسية الايديولوجية هي المرجعية. النوسطالجيا إلى الماضي المجيد تفسد أي نقاش جاد حول الواقع.تبعات الثقافة النرجسية كما يقول كريستوفر لاش هي ما تجعل الجماعات السياسية والاقتصادية متشبثة بآمال عصية على التحقيق في عالم يعيش على تناقضاته الاقتصادية والاجتماعية. والرقمية  . La culture du narcissisme .هي سلاح ضد فظاظة المجتمع وسلوكه غير المحمود.

كيف ظهر مفهوم الإسلام السياسي ؟

هتلر والإسلام السياسي.

حسب مداخلة جميلة وثرية للمفكر العراقي "رشيد الخيون" يقول أن أول من أطلق و نحت مفهوم مصطلح "الإسلام السياسي" رغم الاعتراضات على الرؤية التجزيئية للإسلام كدين ومنهج وحياة هو

" آدولف هتلر" في لقائه مع "الشريف أمين الحسين "مفتي القدس وربما المفهوم شارك في إنتاجه الشريف الرضا قبيل الثورة اليسارية وانفجار المنظومة الشيوعية كايديولوجيا حمراء كان لا بد أن يتسلح الإسلام بمتاريس دفاعية وثقافية زمن القلق الايديولوجي وقتئد لم تكن فكرة الإسلاموية كمفهوم أكاديمي سياسي قد برزت في فضاءات التنميط والتركيز السياسي الغربي  .هتلر كان معجبا بالإسلام وقارئا جيدا لفريديريك نيتشه الذي قال في أحد مدوناته "أن الاسلام هو دين الشجعان لأنه يحمل السيف والقوة معا " الحسيني رحمه الله في ارتباطه بالنازية كان ناقما على النفوذ الصهيوني كارها للاستيطان الاسرائيلي حاول جاهدا استمالة القبائل العربية للحرب ضد بريطانيا ومن ورائها اسرائيل في العشرينات والثلاثينيات رغم هشاشة الوضع العربي الرازح تحت سقف براثن الاستدمار .إلى أن اضطر للتحالف مع هتلر وجرى بينهما لقاء في نوفمبر 1941 استمر لساعات .وكان يقول أنه تحالف اضطراري غير طوعي فرضه تاريخ مشؤوم. من مبدأ "عدو عدوي صديق" . فداحة التاريخ النازي والهتلرية رغم قساوة ووحشية الحرب العالمية الثانية التي أُقحم فيها العالم . أنه كان مع استقلال الدول العربية ناقدا لاتفاقيات سايكس بيكو 1916  .فوجه هتلر في الشرق الأوسط كان مختلفا عن سلوكه القاسي والبغيض    في أوروبا التي احتلها كاملة . في شهور قليلة ومرغ أنف باريس باحتلاله عاصمة فولتير في ثلاثة أيام فقط .مفتي القدس كان براغماتيا في اتصاله بألمانيا وذرائعيا سياسيا .وهو ما جعل هتلر ينتبه لحجم المصالح التي تترتب عن إدماج السياسة في الدين فتولد مصطلح الاسلام السياسي.

البعض يعتقد أن الإسم دخيل ومقصود وغير بريء  وكيدي ظهر في التسعينات بعدما كانت تُنعت الجماعات الدينية بالحركات الاصولية بعد انفجار عصر النيوليبرالية بعد تفكك الشبكة السياسية والإقتصادية للجمهوريات الاشتراكية الكلاسيكية.التي تنبأ بها فرانسيسكو فوكو ياما و تدعمت سياسيا وثقافيا واستراتيجيا بمنظومة فاعلة في المؤسسات المعولمة. لكن الشيء الذي لم تتنبه له الدوائر التاريخية هو أن عصر ما بعد الحداثة والعلمانية الصلبة كمشروع تقليدي سيجعل الاسلاموية كتوصيف غربي وبراديغم دلالي لا علاقة له بأفق التصورات العربية الاسلامية  هذا الأخير أعاد  ترتيب أوراقه السياسية والفكرية والنضالية.الاسلام السياسي ظهر كبديل للاسلاموية بل تلطيف رمزي في سياق التداول الدلالي كما يقول محمد  ابو رمان  في التقديم للكتاب الجماعي "ما بعد الاسلام السياسي".السياسة كدلالة شرعية بالنسبة للمنتمين للفقه السياسي الاسلامي باختلاف مشاربهم المذهبية هي صناعة قرآنية نصية ثابتة  ملامحها واضحة في نصوص محكمة لاريب فيها وغير قابلة للتجديف من التيار العلماني بطوائفه ومخرجاته التوعوية  والواقعية أو حتى اللائكي القاسي أو حتى ما يدعى لعلمانية الناعمة  أو الصلبة أو المتصالحة مع الدين .

 

يقول المفكر الاسلامي محمد مختار الشنقيطي "الجماعات الاسلامية  أو مابات يدعى الإسلام السياسي المعاصرة قوية جدا في التمنع والمناعة الاستثنائية .حسمت المسألة الهوياتية والمعارك الوجودية والفكرية مبكرا .حسمت الإنتصار لصالحها أمام اليسار الذي شهد تراجعات خطيرة ويعزى ذلك إلى قوة الصمود الايديولوجي التي يتمتع به الحراك السياسي الاسلامي لكنه من جهة خسر المعارك الواقعية لأنه انفصل عنها شعوريا ولم يفقه وسائل التغيير الملموس وبقي متشبثا بكثير من المقولات الماضوية التي تجاوزها الزمن السياسي والحداثي".

لماذا ينعت المعارضون  اليساريون الراديكاليون  عدم توفر الإسلام السياسي على آليات بناء الدولة  أو أن دولة الحركات الإسلامية شبه مستحيلة وميؤوس منها؟

الحبر الذي أهرق في كتابة النقد الموجه لتطور حركات الإسلام السياسي يشبه أنهار الدماء التي سالت من أجل تحقيقها بدون تأسيس فعلي أو غاية تدرك. لأن هذه الحركات لم تعد تميز بين كونها طوائف تمارس جل نشاطها في سرية تامة وبين أحزاب عصرية تلجأ إلى العراك والتضاغط الديمقراطي الشفاف.علما أن أكثر الاحزاب السياسية اليمينية العصبية لا تخفي ثقافتها الإثنية والشوفينية وتتبجح بها. مثلا التيار اليميني المتنامي في اروربا وفرنسا بالذات . في الوقت الذي تلتزم جماعات سياسية دينية التكتم والصمت الايديولوجي تأسيا بتجارب قديمة تقليدية كإخوان الصفا والنزعات الشيعية الراديكالية  و مذاهب التظلم والمظلومية  التراثية.

 الإسلام السياسي لم يجب عن مفهوم الدولة في الفكر العربي الحالي والحداثي والذي بات مشوشا غامضا يشبه الجنين الخديج غير مكتمل النمو في الموروث الماضوي الإسلامي. فنحن نعيش ماقبل تكوين الدولة بل حالة شخصنة دائمة لها و فرادة تتناقض مع أسسها وشروطها السياسية بين الدولة المستحيلة بتعبير وائل حلاق. والدولة الاسلامية والدولة العميقة والدولة الوطنية أو حتى القومية نضيع في جماعاتنا السياسية .الطائفية والقبلية والعشائرية والنمط الديني الراديكالي كلها مفاهيم نقيضة لمشروع الدولة كشخص معنوي بل هي نسف لكل منظوماتها التشريعية والتنفيذية .كيف يجتمع حسب هذا المفكر أنماط من الفقه الاجتهادي التأويلي المعاصر في إفراز نمط  أو مشروع الدولة أي بين الفقه الجهادي والفقه التقليدي والفقه الحركي أو ما يسمى الإسلام السياسي.فالفكر العربي والإسلامي فشل في إنتاج الدولة والدليل هو فوضى الربيع العربي  وتداعياته  .مازلنا في طور العشيرة السياسية البدائية حيث سلطة الأب الأكبر أو المجلس القبلي المقدس الذي يسكن لاوعينا.فتحت الجبة ما تحتها ورقاب تربطها أربطة عنق تتوشح بمنط العقم السياسي والضحالة الاجتماعية فلا يغرنك الشكل الوسيم فما تخفيه الأكمة ينذر بإفلاس المشاريع السياسية .لكن إلى متى... علينا أن نتذكر جيدا أن مفهوم الدولة الحديثة نشأ خارج الرقابة الدينية بعد فك الارتباط وإقامة لعزلة المطلقة مع الكنيسة المسيحية  بعد عصور التنوير.الدولة المعاصرة هي بنية  structure في شبكة معقدة من البراديغمات الغربية. هي معطى ثقافي خارج عن نطاق ثقافتنا العربية الاسلامية بمفهومها القيمي والثقافي القديم.

الإسلام السياسي عبثت به رحلة شقاء ومحن وفتن متعاقبة ومتراكمة إلى حد اللعنة  فَقَد زعامات

و أقطاب أعلن عن مراجعات وأهمل بكثير من الاستخفاف مفهوم له وزنه الثقافي والتاريخي والاجتماعي والمعرفي هو "تجديد الخطاب الديني" وذلك بمفعول نرجسية ثقافية أو التعالي القيمي استنادا إلى مفهوم الخيرية الأممية والقوامة الحضارية أو حتى التميز الديني المذهبي "الفرقة الناجية".

جبهات التمثيل السياسي والثقافي  للإسلام السياسي مازالت غارقة في أوهامها المناعية التقليدية وخياراتها الدفاعية ومازال التصدي والممانعة والتعالي في الخصومات الفكرية هو ديدنها ضد معارضيها الكلاسيكيين والمعاصرين رغم تفكك أجنحتهم وتبدد طموحاتهم ومشاريعهم السياسية،  الشيء الذي جعلها تفقد كثير من مراكز قواها القاعدية وتتسبب في موجة الهجرة الايديولوجية والسياسية بين كوادرها ومؤسسيها. أزمتها العميقة هي وقوعها في الشعبوية رغم أزمة التعالي القيمي .( انشطار الاحزاب الاسلامية وتفتتها إلى دوائر متناقضة مصلحيا ومنهجيا رغم الوحدة العقدية والحركية.)

منطق التغيير الذي تشهده الساحة الدولية بمفهوم التفصيل والتحليل البنيوي للحركة التاريخانية التي تشهدها الأحداث .كتحول المزاج الايديولوجي للدول بعد الحرب الاخيرة الاوكرانية .تهاوي مفهوم القطبية ،الزلزال الاقتصادي بعد فترة الوباء الأخير. هذه التجاذبات الكونية لا تبشر بأفق واضح للإسلام السياسي بمختلف تطلعاته وطبقاته السياسية الاجتماعية دون استثناء فصيل سياسي عن آخر.الظاهرة السياسية الاسلامية الحديثة مازالت متشبثة بالمنطق العتيق الذي يكسر كل محاولة للتلاؤم مع المستجدات الحالية.هذا فضلا عن تخبط الاحزاب الاسلامية وفي مشاكل واقعية (حزب العدالة في تركيا والمغرب ومؤخرا تونس)..أزمة الهوية والحركية سببت عقما في التواصل مع الشعوب كما يقول محمد الشنقيطي. هذه الحركات لا تستفيد من المطبات السياسية التي عاشتها  في الماضي القريب وكأنها تعيد مبدأ "العود الأبدي " النتشوي.أخطاء وانزلاقات ومحن الخمسينات تــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم إعادة استنساخها في العشرية الجديدة .هذا فضلا عن تمنع التيار الاسلامي وعدم تنازله عن مفهوم بالغ الخطورة هو أسلمة مؤسسات الدولة  إجتماعيا وثقافيا  وتربويا وهو ما لا تسمح به إطلاقا العولمة اليوم. والعلمانيات الحديثة (الانجليزية والفرنسية ) التي يحاول التماهي معها ومحايثتها.

عندما يميز الإسلام السياسي بين هويته التراثية وهويته الثقافية وهويته الفقهية.ويتصالح مع المفاهيم السياسية الجديدة عملا بفقه الواقع والمتغيرات يمكنه تخطي خطابه المتعالي التقليدي والإنخراط في العصر.

أخيرا اليسار التقليدي والاشتراكي أنهكته بل قتلته شعاراته المثالية إذن على الإسلام السياسي أن يتحلى بالواقعية السياسية  وبتجنب الشعبوية والنرجسية والتذاوت السلبي. العالم العربي اليوم يعيش تخمة سياسية وسلطوية بتعبير محمد الشنقيطي هو في حاجة إلى نضج سياسي ووعي حضاري وثقافي وليس إلى منظومات  حكم جديدة تبدأ أخلاقية ثورية ونبيلة سرعان ما ستتحول إلى دكتاتوريات مستبدة عبثية مقارنة بتاريخنا السياسي غير الرحيم."العالم العربي الإسلامي ليس في حاجة لحكام جدد بل إلى قيم جديدة وتوجيه وضمير ثقافي وعلمي  ومعرفي  فلسفي  ينتشل الأجيال الجديدة من رحلة الضياع السائلة والحديثة"

 بقلم محمد بصري الجزائر.

 

 

مراجع بحثية:

1-       تحرير محمد أبو رمان  تأليف جماعي مابعد الإسلام السياسي  مرحلة جديدة أم أوهام أيديولوجية مؤسسة فريدريس ايربرت عمان مركز اللدراسات الاستراتيجية .

2-     حوار تلفيزيوني مداخلة الدكتور محمد الشنقيطي حوار "في العمق.. الإسلام السياسي في العالم العربي " إشراف علي الظفيري. ساعة التصفح 12.36 يوم 11/05/2022.

3-     كريستفر لاش Christopher Lasch الثقافة النرجسية The Culture of Narcissism.1991.

 

 

 

 


الإسلام السياسي بين النرجسية الثقافية والواقعية السياسية. بقلم الكاتب الجزائري محمد بصري



 

Share To: