د. سامي محمود ابراهيم رئيس قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة الموصل يكتب : سيمولوجيا الحياة: عتمة ينيرها القدر


د. سامي محمود ابراهيم رئيس قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة الموصل يكتب : سيمولوجيا الحياة: عتمة ينيرها القدر


    استيقظ من نومه في الساعة الثامنة صباحا، تجول في شوارع اليوتيوب، ومنصات الفيس بوك وقنوات التويتر، صادف اغنية من الزمن الجميل. سمعها وهو يحاول استرداد مشاعر ذكرى الطفولة التي تتلاوح في أفق استيعابه الممكن... حنين قاتل وذكريات ارهقها الزمن، شغف متواصل، أشخاص تفرقوا، ماتوا، تغيروا ، غادروا... شوق ممزق لصدى الطفولة ودمى الطين ورائحة المطر وعطر المزرعة، رائحة الجدة ماما، ورغيف الخبز وسنابل القمح باعناقها الملوية. بدا يرسمها في الذاكرة ويعيد تشكيلها بالوان منسية، وفجأة انتابته موجة سحر عن حياتنا في الصغر، عن حجم الشمس والقمر، عن ارتفاع النجوم وطول النهر. وتساءل: هل ما زال المطر يعزف انشودته على اوراق الشجر؟ وكيف للصيف أن يحمل كل تلك المسرات ومرح الطفولة؟! كيف تكف الروح عن الاقامة في الزمن، وما نحن الا مسافرون على ارض مرتجلة مع قوم رحل، انه سفر اللاعودة. نشتاق فيه ذاتنا في مدينة الدنيا وليل السديم. لا نذكر شيئا سوى اننا فتحنا باب الوجود فدخلنا كل هذه الأيام الغير مفهومة. فنحن فراغ لا يملؤنا الا القدر، نحن عتمة لا ينيرها الا الايمان، فمنذ ولدنا وجدنا أنفسنا نطوف قسرا مع الزمن... نتيه في لجة الوجود، تحملنا قصائد الشوق، وما بين وبين نحن نموت دون رجعة إلى عتبات المقابر فهي راحتنا في النهاية، فهناك سنلتقي مع ذواتنا مع من نحب دون أقنعة عندها لا نحتاج الى شاهد العين، سيأخذنا الحب إلى حيث السعادة الابدية... إلى تلك الغاية التي لم نخلق الا لأجلها. 

حين اتذكر تفاصيل حياة "الجدة ماما" اشارك ذلك العالم، احس بتلك المثل البريئة، كأنها وجد روح يغمرنا بالسعادة، اتذكرها تحكي لنا قصة القبض على اللحظة الهاربة من عمرنا في ميزان برج الجدي، اشم عبيرها الباقي كمسك يصوغ في الذاكرة. كانت "الجدة ماما" كأنها الكون تحكي قصة الزمن اللعوب.. اتراه كان حلما ان انثر مشاعري المبعثرة على اوراق زمنك الجميل، اي حياة تلك التي كانت.. في مكان ما وزمان. يضحكنا ويبكينا ما تختزنه تلك الذاكرة من حياة جدتنا الأم!؟

للأسف ضاقت مساحة التعبير والكتابة هنا لشدة ضوء الحقيقة. ضاقت مع اتساع المعنى وبقايا ذكريات. ولأني اقطر روحي هنا لا احتج ابدا على ديمومة الحياة وهي تراهن على غير توقعاتنا والآمال. كأنها البارحة وليس قبل سنوات. اليست مدهشة ومذهلة هبة الله ان يمنحنا هذه الذكرى الجميلة التي تحرك في داخلنا مشاعر لا توصف، تحرك فينا كل العواطف النبيلة التي تستخرج ما في اعماقنا من ينابيع الحب والرحمة، بل وسائر القيم الانسانية التي لم نقرأها في قاموس افلاطون ولا حتى ارسطو.. فشكرا لك والثناء وانت تواسينا كل هذا الانتظار ..

طيفك الجميل يطل على يومي كل ساعة، حيث اودعت بعض كنوز الذاكرة، ووهج عاطفة يزيدها الزمن توقدا ، ذكرى ارهقها الحنين.. 

هي حكاية الزمن السعيد، فعندما تكسوني الهموم اسبح في بحر ذكراها العطر، هي ذاكرة سنين طوال تمتد لأكثر من تسعين عاما تعلمنا أن الجمال موجود في كل شيء لكن ليس كل العيون ترى.. وتعلمنا أن الألم الكبير لا دموع له، وللحياة اسلوب أهم من العيش ذاته.. دائما تردد عبارة اقرا وهي الأمية. أضافت إلى خزائن قصصها والحكايات قصة خزائن يوسف وما آل إليه من نعيم. قلبها الكبير كغرفتها لا يكاد يخلو من ضيوف.. تحدثنا جدران بيتها القديم عن المعنى الحقيقي للحياة المتمثل بالبساطة والحب والتراحم والتزاور والتجاور، بل والسعادة بكل ما تحمله من معنى.. وفي صلابة الواقع وزحمة الحياة وغياب الروح نتساءل كيف يكون لها كل هذا الحضور الحي والمحبة.. هذا الشعور ينتابنا في كل تفاصيل حياتنا دون تكلف اوعناء، كيف يكون لها في كل غرس ثمرة حتى اذا بحثت عن جذورها وجدته يمتد إلى مساحات عديدة . ذكرياتنا معها طيف حلم جميل قلما نصحو منه.. صدق محبة وقبول رباني كريم.. رزقها الاكبر في الحياة هو الرضا لذا تتكرر كلمات الحمد على لسانها.. تحمد الله قبل أن تروي قصصها وحكاياتها سواء في ليالي الصيف المضيء ونحن ننظر بوجه القمر ام في ليالي الشتاء البارد .. تتلو لنا الحكاية تلو الحكاية دون كلل او ملل. وكان همنا الوحيد أن تستمر في الحديث ولا تنتهي. فالنهاية مؤلمة تذكرنا بوطأة الزمن. كان مطلبنا لو أن دنيانا كلها تصبح حكاية حالمة لا تنتهي بتقادم الزمن.. هي التي عندما تدق أجراس قلبها تدق أجراس الحياة، هي التي تأتي حلما وروحا ونبضا يدق في وجداننا لتصفه بعض الذات... الى جدتي الرحمة وبقايا امنيات. حسنا من الممكن ألَّا نعود إلَّا ونحن قلم جف حبره عن الكتابة بعد أن خط أولى الكلمات. لذا فالكتابة تشبهنا تماما نقطر فيها من أرواحنا تفاصيل الوجوه، تسلبنا الكثير من الأقنعة التي لبسناها أمام مرآة الواقع وبكل تخفٍ وغموض. وأنا الآن أفعل الشيء نفسه حينما كنت طفلا.. كأن السنين توقفت.. كل شيء كما كان. كنت أمدُّ يدي في المساء لالتقط نجمة الثريا التي كنت أراها قريبة مني. كنت أعد النجوم ولا أحصي منها إلا عشرا. 

  نهاية كل حكاية كانت ترويها لنا " الجدة ماما" عن الدب الاصغر وبنات نعش. لهذا لم تكن الكتابة بالنسبة لي إلا ملاذا أسكب فيه جداول مشاعري ووجدي بالحياة، بل وسؤال كينونتنا البشرية وعشقنا والممات.

إليك جدتنا الام كل الحب والأماني الجميلة التي تمتد إلى ما وراء عالم الدنيا القصير...نستعير منك الحب دعاءا يوميا تتلينه لنا قبل وبعد صلاة الفجر علنا نهتدي ونأمن بعد ان ضيعتنا الحياة في اجواءها الموحشة المكتظة بالمظاهر والماديات.. كم تلقينا منك دروس الحياة وعبر الزمان.. تعلمنا منك أن الصدق وحسن الظن قيم تستحق الذكر، قيم محفزة للحياة.. ووصيتها التي ترددها كلما دعونا لها بطول العمر، ان يغفر الله لها ونلملم قبرها في التراب. فمنها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اخرى.. اللهم اغفر لها وارحمها واجعل قبرها روضة من رياض الجنة.



د. سامي محمود ابراهيم رئيس قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة الموصل يكتب : سيمولوجيا الحياة: عتمة ينيرها القدر




Share To: