الأديب المصري / سمير لوبه يكتب قصة قصيرة تحت عنوان " أبيض وأسود "
بينَ الأبيضِ والأسودِ تمضي أيامُه برتابةٍ ، لا يثقُ في النورِ يرتدي نظارتَه السوداءَ ، على ضفةِ نهرٍ قابعٌ يجبنُ أن يعبرَ للضفةِ الأخرى ، يهوى ركوبَ الترامِ إلى جوارِ النافذةِ حتى أخرِ الخطِ والعودةَ بها ، يحلقُ في الفضاءِ الأزرقِ متخفيًا ، فيه يبوحُ بكلِ جرأةٍ فلا أحدًا يعرفُه ، تأسرُه عذوبةُ الأصواتِ يغتالُه تشحجُ البغالِ ، في المقهى يكتفي بالإشارةِ للنادلِ فيأتيه بفنجانِ القهوةِ ، يستنشقُ أبخرتَها المتراقصةَ ؛ تروي روحَه ليستوعبَ ما يدورُ حولَه ، تفترُّ شفتاه أحيانًا عن ابتسامةٍ مستحيةٍ لحديثِ نفسِه الثرثارةِ ، وبينَما انداحت دائرةُ صمتِه إذا بعينين نجلاوين لمليحةٍ في خمارٍ أسودَ تسفران عن أنوثةٍ طاغيةٍ تفجُ جمالًا في الفضاءِ الأزرقِ ، وهو الباحثُ عن الماءِ في سرابِ الأيامِ ، تشتهي روحُه جميلةً تروي ظمأ جسدِه ، بأصبعٍ مرتعشٍ يضغطُ على طلبِ الصداقةِ ، تدهشُه موافقتُها السريعةُ على قبولِ طلبِه ، يعتريه إحساسٌ يدغدغُ مشاعرَه ، تحدثُه نفسُه أن يكتبَ لها على الخاصِ وإن رفضت فهذا أفضلُ من الندمِ على ضياعِ الفرصةِ ، تتملكُه روحُ المقامرِ فلو كان على صوابٍ صارت لديه فرصةُ الفوزِ بجميلةٍ ترويه ، و لو كان على خطأ فلن يخسرَ شيئًا مقارنةً بما سيخسرُه لو لم يحاولْ لذا عليه اقتناصُ الفرصةِ ، وعلى الرُغمِ من كونِه خمسينيًا فقد أخفي ذلك بمبالغاتٍ لفظيةٍ فيها توددُ المراهقين الفجُ لجذبِ الانتباهَ ، محاولًا من حديثِه رفعِ الكلفةِ ، فوجد صدى جيدًا منها فهي الأخرى وجدت في حديثِه حياةً لما بدأ يذبلُ من نضرتِها ويشعرُها بأنوثتِها بعد أن تخطت الأربعين ، تثملُها الوحدةُ تحبُ أن تركبَ الترامَ حتى أخرِ الخطِ والعودةَ ، إن احتياجاتِ كلٍ منهما العاطفيةِ أو الحسيةِ قد ترفضُها العاداتُ والتقاليدُ المتشددةُ والتي تحولُ دونَ اللقاءِ الفعلي ولكن في حديثِهما على الخاصِ يعثرُ كلٌ منهما على متنفسٍ في الفضاءِ الأزرقِ ؛ فالمشاعرُ والأحاسيسُ لا تفرقُ بينَ صغارٍ أو كبارٍ، تزدهرُ العلاقةُ العاطفيةُ بينهما عبرَ الفضاءِ الأزرقِ وقد أخفى كلٌ منهما عن الآخرِ حقيقةَ وضعِه ، وفي الترامِ بينما تجلسُ أمامَه امرأةٌ أربعينيةٌ مشغولةٌ بهاتفِها يتذكرُ أنَّه في الواقعِ خمسيني أعزبُ لن ترضى به تلك الفتاةُ العشرينيةُ ، وتتأكدُ هي أنًّ عدمَ مكاشفتِها له بأنَّها أربعينيةٌ عزباءُ سيعصفُ بالعلاقةِ برُمتِها ولن يقبلَ بها الشابُ العشريني ، وسرعانَ ما تحوَّل لقاؤهما على الخاصِ إلى سببٍ للهمِ والكدرِ ، يسألُ كلٌ منهما نفسَه في ذاتِ اللحظةِ عما ورطَ نفسَه فيه ، وإذ فجأةً يقررُ حظرَها فإذا بها قد حظرته لنفسِ الدوافعِ ، يغلقُ الهاتفِ يستعدُ لمغادرةِ الترامَ ، تنهضُ معه تلك الأربعينيةُ التي تجلسُ أمامَه في الترامِ بعدَ أن أغلقت هاتفَها هي أيضًا ، يغادران الترامَ وعلى رصيفِ محطةِ الترامِ ، يمتزجُ ظلّاهما مكونان ظلاً واحدًا بينما شمسُ الغروبِ تلملمُ أشعتَها الحمراءَ ، وإذا بكلٍ منهما يسيرُ في اتجاهٍ عكس الآخرِ فيتمزقُ الظلّان .
الأديب المصري / سمير لوبه يكتب قصة قصيرة تحت عنوان " أبيض وأسود "
Post A Comment: