الكاتب والمترجم المغربي / كريم الحدادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "نيويورك... حيث لا مجال للشفقة" 


الكاتب والمترجم المغربي / كريم الحدادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "نيويورك... حيث لا مجال للشفقة"


خرج أنطوان من غرفته الواقعة في الطابق الألف بعد المليون، من عمارة في قلب نيويورك. خرج مسرعا كسلحفاة طاعنة في السن. حتى إنه نسي أن يستعمل المصعد الذي من القائم أن يحمله أسرع بكثير إلى الخارج. ربما يقربه من محطة الميترو السريع هو الآخر. لقد بدا و كأنه طبيب تأخر عن موعد عملية جراحية لمخ مريض توشك حياته على النهاية؛ أو عن موعد مع المرأة التي عشقها و عشقته في المدرسة الابتدائية، وشاء القدر أن يتواصلا صدفة و بعجلة، وكأنها ربان طائرة ستقلع مباشرة بعد نزول الركاب لتحلق من جديد إلى نيودلهي.

كانت الساعة تشير إلى مجموعة من الأرقام المتداخلة، وكأنها أصيبت بالجنون. وكانت نيويورك غارقة في الصمت، كل الناس نائمون. تحسب في البداية أن الساعة قائمة. أو لم يتسنى لهم النهوض و الخروج بعد إلى الشوارع ليملؤوها صخبا و ضجيجا و يلوثونها بدخان السجائر و محركات سياراتهم و يعكرون مزاجها بجدالاتهم التي لا تنتهي حول السياسة و الحب و أمور أخرى. عديمة الفائدة.

بعد أن ألقت به أدراج العمارة إلى أسفل السافلين، قذفه الباب الزجاجي الأوتوماتيكي دون تردد، حتى لفظه كجثة مهاجر إفريقي كان في طريقه إلى اسبانيا فغرق في قلب المحيط الأطلسي وهو يحاول الهروب من حياة إفريقيا الغنية عن التعريف.

تسمر أمام الباب لمدة تزيد عن قرن و نصف. أو ربما أكثر. اندهش الجميع. خرج جل سكان العمارة بالمئات بل الالاف: أطفال، رجال، نساء، مثليين، عبدة شيطان، ملحدون، صحفيون، كتاب، علماء أحياء، أنتروبولوجيون، عاهرات، رجال أعمال، كلاب، قطط، مرضى و مجانين أيضا.

بدا و كأنه، لمن يراه في أول نظرة، كأنه ثمل أو مضطرب أو فقد صوابه. حاول الجيران الحديث معه بدون جدوى؛ وجهت نحوه الكاميرات و ميكروفونات متعددة الألوان، لكنه ليس هنا. فنفره الجميع. و كأن منظره طبيعي، عادي. في نيويورك إما أن تكون أو لا تكون. كل الناس مشغولون. لا مجال لإضاعة الوقت، أو للشفقة على أحدهم. 

يتحرك أنطوان و هو يتسارع مع من؟ يصارع. من؟ يتنافس. يهرول. ينزف. يتصبب عرقا. يقف لحظة. يجري لساعات. يستعمل هاته النقال ليلتقط "سيلفي" يكتشف أنه مجرد من الملابس. يرمي الهاتف. يشعل سيجارة. يطفئها قبل أن ينهيها. يتنفس بهدوء. بعنف. يتأمل حركة كلب تجره عشرينية تلبس لا شيء. تمشي عارية. يحول نظره شطر جسدها. يهمل الكلب. يتفحص الجزء العلوي. يتفقد القدمين. ثم الساقين. يتوقف طويلا عند الأرداف. يرغب في ممارسة الجنس. يركب الميترو. ينزل عند الحانة. يشرب حتى النعاس. ينام في الحانة. لا يملك المال. يضربه البواب. يضحك عليه الجميع يلفظه الحارس خارجا. تمر الفتاة و الكلب يسبقها. يقترب منه. يتبول عليه. تضحك الفتاة. يضحك الرجل. يبكي بعدها. يشم نفسه. يحاول النهوض. يفشل. يمر شرطي. يحاول مساعدته. يفشل. يتركه. يشتمه. يعاتبه. يمر صبي في العاشرة من عمره. يتأسف. يبتعد. يجري. يهرب. يمر طالب فلسفة. يتوقف. يندهش. يقترب منه. يحاول مد يد العون. يشفق عليه. يشم رائحة البول. بول الكلب. يبتعد. يتراجع. يضحك. يقف سائق سيارة الأجرة. يسأله. "نعم أريد أن أذهب إلى الجحيم". ينطلق السائق. خلفه مباشرة تقف سيارة الشرطة. تحمل الرجل. تصل إلى مخفر الشرطة. يرسله العميد إلى المستشفى المدني. يصل إلى المستشفى المدني. تفحصه طبيبة ثلاثينية. جميلة. فاتنة. ينتصب عضوه الذكري. يرغب في معانقة الطبيبة. ترفض. يصرخ. "أريد أن أحبك، أقبلك، أعبث بشعرك. أنت جميلة. أنا قبيح. أنا كلب. أنا سيء. أنا مجنون. ". يتدخل الممرضون. يوقفونه. يتقدم طبيب عصبي. يحقنه بمخدر. ينام الرجل. يفتح عينه. يجد نفسه في مكان مظلم. يتحرك. يضيئ المكان. يسكن. يعم الظلام. يتحرك. يضيء المكان. يجري في الغرفة دون توقف. إنه، على الأرجح، في مستشفى الأمراض العقلية.







Share To: