الكاتب السوداني / أحمد سليمان أبكر يكتب : ملامح مدينة


الكاتب السوداني / أحمد سليمان أبكر يكتب : ملامح مدينة



تتميز بطقسها المعتدل في فصل الأمطار، السحاب الأسود المتراكم وقمم الجبال الشامخة التي تبدو كمردة الجن وهي تخترقه في عناد وإصرار، تجعل الناظر إلي الأفق تختلط عليه الرؤية؛فلا يكاد يستبين السحاب  من الجبال! أما  الأرض فطينية سوداء، نباتاتها مخضرة ريانة،أشجارها وارفة ظليلة،حقولها خضراء منتشرة على جانبي الطريق الداخل إلى المدينة كحبات عقد من الياقوت الأخضر انفرط ناظمه،يخرج إليها مزراعوها في الصباح الباكر ؛وهم أهل تأني وليس بينهم العجول،يسيرون عند حواف الطريق،يتدثرون بأزياء مخصصة للعمل.

المدينة ريفية، تسير الحياة بها على مهل،الناس فيها يعرفون بعضهم البعض بشكل كبير، تظهر روح العصور القديمة جلية في طريقة البناء فمنازلها مشيدة على طراز فريد؛ذو نقوش وألوان زاهية،وهي عبارة عن دور فسيحة تتوسطها إما غرف مبينة من الطوب الأحمر أو أكواخ مصنوعة من الأخشاب والقصب ،مع القليل من البنايات الحديثة التي تحيط بدار الناظر المشيدة جنوب التلة المطلة على المدينة من جهة الشرق،تلك التلة التي هي من أجمل أماكن التنزّه في الناحية،وطالما اتخذها الناظر الأول (المؤسس) متنزهًا، وقد جعلها الناظر الثاني  سريرًا لإدارته بدلًا من الدار التي  في شرق التلة حيث كان سلفه  يقيم ،وأنشأ فى جنوب التلة دار فخمة عرفت  بـ(السرايا) وسموها أيضاً(دار الناظر)، جلب إليها العمد والجرانيت والرخام من الهياكل القديمة،وغرس فيها الأشجار والرياحين،وألحق بها إسطبل للخيل وجراج يضم مجموعة من السيارات الكلاسيكية الفارهة، وقد بالغ فى إتقان  الأبينة من خلال وقوفه بنفسه على سير العمل، فلما تم بناؤها نقل إليها أهله ومعاونيه،لقد مضت سنوات وهو يملك زمام المدينة في مهارة أثارت إعجاب من عاصروه من نظار المدن المجاورة وسار بذكره الركبان، وأصبح بين القاصي والداني مضرب مثل في عمل الخير وإشاعة الأمن والسلام، وامتلاك ناصية التقدم والإزدهار في زمانه.

أما أسفل تلة الناظر من جهة الغرب فيوجد المسجد العتيق  الذي حدّث بناءه أكثر من مرة كتحفة معمارية تعكس طابع المدينة  الإسلامي،وإلى جانبه المجلس الريفي الذي انتقلت إليه كل صلاحات الحكم المحلي بعد أن كانت مناصفة مع الناظر،وأصبح منصب الأخير منصب تــشريفي محـــصور بشـكل كبير في الجوانب 

الاجتماعية كإدارة النزاعات وفضّها بصورة أهلية.

ومن البنايات المميزة المدرسة الابتدائية التي استوحى مهندسها شكلها من شكل القطار وهو منعطف عند منحنى السكة، فبناها بذات الشكل، وهي لا زالت صامدة كصمود قمم الجبال الشامخة وقد تجاوزت مئويتها بعشر سنوات. كما لا يخفى على المتمعن في معمار المدينة وشوراعها طابع التاريخ والحداثة المتداخلين بشكل كبير في كل ناحية من نواحيها.

كثيرًا ما تغطي الغيوم سماء المدينة  في النهار ،وتتناثر حبيبات المطر في الطرقات وأسقف  المباني، لكنها لا تمنع أهل المدينة من ارتياد السوق العتيقة التي تتربع في قلب المدينة،والانسياق عبر طرقاتها المتعرجة المحفوفة  بالأشجار الخضراء في نسق متأن يحاكي نسق الحياة في المدينة،يغتنمون معجزة المكان،حيث يتهادى الوقت في مشيته متخليًا عن طبعه المتعجل معلنًا عن عطلة مفتوحة على إيقاع الأنغام الشعبية الهادئة التي تنساب في غير ضوضاء من بعض المحلات المتاخمة للسوق. 

تفتخر المدينة  بكونها خليط مثير من  الثقافات والعادات والتقاليد المتنوعة، وأنها جنة لعشاق المقاهي التي تعج بهذه السحنات المختلفة، فيها يمكن للمرء أن يشرب الفنجان تلو الفنجان من القهوة المعتقة التي ما أن يأخذ رشفته الأولى منها حتى  تمشي عيناه من نافذة المقهى في الشوارع المزدحمة وتتسلق نظراته واجهات المحلات التجارية،ثم تهبط إلى ظل الأشجار حيث بائعي الذرة أمام حبوبهم المرصوصة في شكل أهرامات صغيرة وهم يبيعون للمشترين وينطقون العدد في نغمات موسيقية فيها براعة تجذب الزبائن وهم إليهم يهرعون،وإذا مشت نظراته قليلًا رأى مبنى البوستة وهو لا زال بشكله القديم، وقد زاحمه شموخ أبراج الاتصال الحديثة التي تناثرت في أنحاء المدينة هنا وهناك ناقلة أهلها من عالم الرسائل المكتوبة على صفحات الورق إلى عالم الرسائل الإلكترونية، ومن عالم التلغراف وأسلاكه الممتدة على بساط الأرض إلى عالم الأجهزة الذكية وذبذباتها الهابطة من الفضاء، عندها سيقف هنيهة متأملًا في المبنى وهو يذكر عهده الذي مضى فيخالجه شيء من إحساس الزمان الذي لا يبقي على شيء إلا تركه باهتًا شائخًا بعد أن كان كله رونق وشباب،أما إذا أخذته خطاه في جولة عبر السوق سرح بين الأشكال والألوان والروائح التي تعكس التنوع السكاني الفريد،فالمدينة ذات طابع متميز، وموطن لأكبر عدد من السكان ذوي الأصول المختلفة الذين يتميزون بتطبيق التعايش بصورة تجعل الغرباء يذوبون في وسطهم في بحر شهور إن لم تكن أيام.أما فرصة التأنق فعمل جاد وهام ،لا يفوته أهل المدينة أبدًا، فالكل يرتدي أجمل ماعنده، وهو خارج إلى عمله أو إلى أي نشاط اجتماعي آخر كزيارة صديق أو حضور حفل أو غير ذلك.

أما صمت الليل وهو يخيم على المدينة ويكسوها ثوبًا رقيقًا،ومنظر الشجر الذي يظلل شوارعها وهو حاني بعضه فوق بعض ،وشكل الجبال الهادئة التي تحيط بها كإحاطة السوار بالمعصم،وما فوقها من سماء  زرقاء صافية، صورة يمكن أخذها ووضعها في إطار التأمل فيها واستلهام الوحي منه! وإذا خطرت عاصفة من عواصف الغيوث تحسبها لأول وهلة أنها لا شك طامسة أثر ذلك الجمال، عابثة بذلك الهدوء الصامت متلفة لتلك الصورة الرائعة، ولكنها في الحقيقة لا تصنع شيئًا من هذا أو ذاك بل تعطي الصورة رونقًا وجمالًا، وتزيدها حياةً وبِشرًا،يفوق منظر ما رأيت سحرًا وروعةً، تستجيش في حضرتها الخواطر،ويصفو الذهن، وتمتلأ  النفس راحة وسكون،وتظل الساعات وأنت مأخوذ بسحر ذلك المنظر؛ في خلوة روحية، وخشوع فكري، وجلالة تغمر النفس، وتملأها بأسرار الحياة وخفاياها.

***

 




الكاتب السوداني / أحمد سليمان أبكر يكتب : ملامح مدينة





Share To: