فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف يكتب "معالم كمال الرجال" 


فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف يكتب "معالم كمال الرجال"



يَتَفَاوَتُ الرِّجَالُ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالْفَضْلِ :


فَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يُسَاوِي أَلْفَ رَجُلٍ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَاوِي مِائَةَ رَجُلٍ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَاوِي أُمَّةً .

وَمِنَ الرِّجَالِ مَنْ يُسَاوِي الأُمَمَ كُلَّهَا كَرَسُولِنَا صَفْوَةِ الْخَلْقِ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ .

وَمِنَ الرِّجَالِ مَنْ لاَ يُسَاوِي شَيْئًا وَهَذَا مِصْدَاقُ قَوْلِ الرَّسُولِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

 كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :


سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : 


«إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً» .


وَالْمَعْنَى أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أَهْلُ نَقْصٍ وَأَمَّا أَهْلُ الْفَضْلِ فَعَدَدُهُمْ قَلِيلٌ جِدًّا ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الرَّاحِلَةِ فِي الْإِبِلِ الْحَمُولَةِ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: 


﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.


وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا لِمَنْ حَوْلَهُ : تَمَنَّوْا .

فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مَمْلُوءَةٌ ذَهَبًا فَأُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .


ثُمَّ قَالَ : تَمَنَّوْا .


فَقَالَ رَجُلٌ : أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ لُؤْلُؤًا أَوْ زَبَرْجَدًا أَوْ جَوْهَرًا فَأُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَتَصَدَّقُ .


ثُمَّ قَالَ عُمَرُ : تَمَنَّوْا .

فَقَالُوا: مَا نَدْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .


قَالَ عُمَرُ : « أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ رِجَالًا مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ» .


هَذَا الإِسْلاَمُ وَهَذَا دِينُنَا الَّذِي اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْنِيَ نَمَاذِجَ تَفْخَرُ بِهَا الْعِبَادُ ، لاَ تَقِفُ أَمَامَهَا عَوَائِقُ الْعُمْرِ وَعَدَدِ السِّنِينَ ، وَقِلَّةِ الْحِيلَةِ وَذَاتِ الْيَدِ .


نَعَمْ ؛ أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ وَشَبَابُهُمْ وَكِبَارُهُمْ صَنَعُوا الأَعَاجِيبَ وَالتَّضْحِيَاتِ ، وَهُمْ قَدْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا إِلاَّ هِمَّتَهُمُ الْعَالِيَةَ ؛ أَلَمْ تَسْمَعُوا بِمُعَاذٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ ، وَمُعَوِّذٍ بْنِ عَفْرَاءَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .


مُعَاذٌ أَشْهَرَ إِسْلاَمَهُ صَغِيِراً ، وَكَوَّنَ مَعَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فَرِيقًا لِلدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلاَمِ ، وَتَخْلِيصِ أَحِبَّائِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ .


اسْتَطَاعَ مُعَاذٌ أَنْ يُقْنِعَ أُمَّهُ بِالإِسْلاَمِ وَكَرَّرَا الدَّعْوَةَ إِلَى دِينِ اللهِ مَعَ أَبِيهِ ، لِشِدَّةِ تَعَلُّقِهِ بِصَنَمٍ يَعْبُدُهُ يُدْعَى مَنَاةُ ، فَفَكَّرَا بِحِيلَةٍ لِهِدَايَةِ أَبِيهِ ؛ فَأَخَذَ الصَّنَمَ وَأَلْقَاهُ فِي حُفْرَةٍ ، وَفِي الصَّبَاحِ أَخَذَ وَالِدُهُ يَبْحَثُ عَنْ صَنَمِهِ فَلَمْ يَجِدْهُ ، وَظَلَّ يَبْحَثُ عَنْهُ حَتَّى عَثَرَ عَلَيْهِ فَحَمَلَهُ ، وَأَزَالَ مَا عَلَيْهِ مِنْ أَوْسَاخَ ، وَتَوَعَّدَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْوَيْلِ الشَّدِيدِ ، وَكَرَّرَ مُعَاذٌ هَذَا الأَمْرَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ ، وَفِي مَرَّةٍ عَلَّقَ الرَّجُلُ سَيْفًا فِي رَقَبَةِ الصَّنَمِ وَقَالَ لَهُ : 


إِنْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ فَهَذَا السَّيْفُ لِتَدْفَعَ بِهِ السُّوءَ عَنْ نَفْسِكَ فَأَخَذَهُ مُعَاذٌ وَرَبَطُهُ بِحَبْلٍ مَعَ جِيفَةِ كَلْبٍ ، وَأَخَذَ السَّيْفَ مِنْهُ ، وَأَلْقَاهُ فِي الْحُفْرَةِ .


وَكَالْعَادَةِ أَصْبَحَ الرَّجُلُ فَلَمْ يَجِدِ الصَّنَمَ ، فَذَهَبَ إِلَى الْحُفْرَةِ فَوَجَدَهُ فِيهَا ، وَقَدْ سُلِبَ مِنْهُ السَّيْفُ وَرُبِطَ مَعَ الْكَلْبِ الْمَيِّتِ فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ ؛ أَحَسَّ بِخَطَأِ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ وَقَالَ : 


وَاللهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا لَمْ تَكُنْ أَنْتَ وَالْكَلْبُ فِيِ هّذِهِ الْحُفْرَةِ ! وَمَا لَبِثَ أَنْ رَاجَعَ نَفْسَهُ وَدَخَلَ فِي الإِسْلاَمِ .


قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : 


بَيْنَمَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي ، وَشِمَالِي ، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمَا تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلُعٍ مِنْهُمَا ، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ : 


يَا عَمَّاهُ ، هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ ؟ 


قُلْتْ : نَعَمْ ، وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي ؟ 


قَالَ : أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سِوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ إِلْأَعْجَلُ مِنَّا فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ .

فَغَمَزَنِي الْآخَرُ ، فَقَالَ لِي مِثْلَهَا ، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَدُورُ فِي النَّاسِ ، فَقُلْتُ لَهُمَا : 

أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ ، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ .


فَقَالَ : أَيُّكُمَا قَتَلَهُ ؟ 


فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَنَا قَتَلْتُهُ . 


فَقَالَ : « هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا ؟ 

قَالَا : لَا ، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ : 


« كِلَاكُمَا قَتَلَهُ وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ ، وَكَانَ الْآخَرُ مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ » 


[متفق عليه].


وَفِي يَوْمِ أُحُدٍ كَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ وَوَلَدَاهُ فِي مُقَدِّمَةِ صُفُوفِ الْمُجَاهِدِينَ .


وَكَانَ ابْنُ الْجَمُوحِ أَعْرَجَ ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ ابْنَاؤُهُ فِي أَنْ يَبْقَى ، وَلاَ يَخْرُجُ لِلْقِتَالِ ذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ : 


يَا رَسُولَ اللهِ أُرِيدُ أَنْ أَطَأَ بِعَرَجَتِي هَذِهِ الْجَنَّةَ .


فَقَالَ النَّبِيُّ لَهُمَا : « لاَ تَمْنَعَاهُ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُكْرِمَهُ بِالشَّهَادَةِ» .


وَأَذِنَ لَهُمَا بِالْمُشَارَكَةِ مَعَهُ رَغْمَ صِغَرِ سِنِّهِمَا .


 أيها الأحباب :


اعْلَمُوا أَنَّ مِيزَانَ الرِّجَالِ فِي شَرِيعَةِ الإِسْلاَمِ مَنْ كَانَتْ أَعْمَالُهُ فَاضِلَةً ، وَأَخْلاَقُهُ حَسَنَةً عَالِيَةً ؛ وَلَيْسَ الْمِيزَانُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ ، وَيُسْرِ الْحَالِ ، وَاكْتِمَالِ الْقُوَى وَالْجَمَالِ .


فَقَدْ رَوَىَ الْبُخَارِيُّ :


عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ :


أَنَّهُ قَالَ : مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ : 


مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا ؟


فَقَالَ : رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ قَالَ : فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ :


فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : 


مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا ؟


فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ .


فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : 


هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا .


فَالرُّجُولَةُ تَمَسُّكٌ بِالتَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ ، وَصِدْقٌ مَعَ اللهِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ، وَعِلْمٌ وَعَمَلٌ وَدَعْوَةٌ ، مَعَ سَلاَمَةٍ فِي التَّوَجُّهِ وَحَذَرٍ مِنْ مُخَالَفَةِ الدِّينِ وَإِحْسَانٍ لِلْخَالِقِ وَالْخَلْقِ .





فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف يكتب "معالم كمال الرجال" 




Share To: