للسّنابل والمناجل والمذاري والنّوارج أحبّتي حكايات لا يعرفها إلّا أهل البادية الّذين يتشبّثون بالأرض تشبّثا لا تقطعه عرى السّنين والأعوام. كان اليوم أوّل يوم من أيّام الصّيف، وتزامن حلول هذا الفصل مع موسم درس السّنابل لهذه السّنة، فبعد أن أنهت العائلة موسم الحصاد هاهي تستعدّ لموسم الدّرس وتصفية الحساب. غير بعيد من المكان الّذي زرعت فيه حبّات القمح والشّعير ونمت في أحضان تربته الثّرية وأينعت وأثمرت ثمّ اصفرّت اصفرار الشّمس في كبد السّماء، يوجد البيدر وهو منبسط مستدير من التّراب تكدّست فيه أكوام السّنابل تنتظر الدّرس. للبيدر أحبّتي سحر وجمال وأسرار ومتع لا ينتشيها إلّا من عاشها بصدق. السّنابل مفروشات على البيدر في انتظار قدوم الجرّار ويا ليته كان نورجا ولكن هيهات. في اللّيلة الأخيرة السّابقة ليوم الدّرس، السّنابل هنا على سطح البيدر تتغامز وتتهامس وتتسامر وتنتظر يوما مشهودا بفارغ الصّبر وعلى أحرّ من الجمر وكأنّي بها تقول:"ما أكرمها اليد الّتي بذرتني ثمّ حصدتني ثمّ هاهي ستدرسني وتذرّيني ثمّ تعيد بذري من جديد في رحم الأرض الّتي تدور، هي تدور وأنا أدور من البداية إلى اللّانهاية".
عند انبلاج الفجر تسمع السّنابل أزيزا قادما من الغرب في اتّجاه الشّرق وتستعدّ بكلّ قوّاها لتعرف مصدر هذا الصّوت القادم نحوها وإذ به جرّار يجرّ أذيال الأمل إلى البيدر بعد أن ملّت السّنابل الترقّب واستنزفت صبرها. يأتي الجرّار وأزيزه يصمّ الأذان صمّا، ويدور على البيدر الدّورة تلو الأخرى حتّى لا تكاد ترى في الكون غير دوائر في دوائر. الشّمس تلفح الوجوه وغبار التّبن يدخل عينيك ومنخريك، فلا الشّمس تجعلك تتذمّر ولا غبار التّبن يجعلك تتأفّف لأنّك في عالم غير العالم هو عالم البيادر بظاهره وباطنه. ومع دوران الجرّار تسمع حفيف السّنابل وهي تحت العجلات تداس دوسا لا رحمة فيه ولا شفقة، لا يعرف حلاوة وقعه غير أهل البيادر، وبين الفينة والأخرى ينتابك نسيم عليل يخفّف من حرارة الشّمس. وأنت مع هذا كلّه تدور مع الجرّار دورات ودورات وتنصت إلى السّنابل وهي تنسحق تحت عجلات الجرّار سحقا عنيفا، ولا ينفكّ خيالك يسرح فيريك الحياة بأكملها بيدرا: في أحضانه تطحن الأقدار وتغربل الشّرور والخيرات ويماط اللّثام عن القشور من اللّباب تماما كما في هذا البيدر، فبعد أن أنهى الجرّار مهمّته يأتي دور المذراة وما أعرف مشهدا فريدا أروع للعين وأمتع للنّفس من مشهد مذراة تعلو وتهبط ومعها تتسابق أكوام من التّبن والحبّ صعودا ونزولا، فيتطاير التّبن في الفضاء ثم يهبط مغشّيا عليه إلى ناحية البيدر أمّا حبّات الشّعير فتعود إلى الكومة الّتي ترتفع المرّة تلو الأخرى فكلّ حبّة من حبّات الشّعير ترتفع في الجوّ ثم تعود إلى الأرض مئات المرّات. ومع هذا كلّه ترى المذرّي لا يكلّ ولا يملّ، وصبره لا ينفد وعضلاته لا ترتخي ولا تهدأ، في حركة دؤوبة بين جيئة وذهاب وهو ينظر إلى الحبوب ناظر العاشق إلى معشوقته، ولعلّ أكبرهمّه أن تساعده نسمات الهواء على إنجاز عمله وإن خانته الرّيح تارة فتراه قد إتّكأ على مذراته ينتظر المدد والعون، وهو لا ينفكّ ينقطع عن عمله إلّا لما ذكرناه آنفا. فهاهو يدفع بحبّات الشّعير والتّبن إلى أعلى فإذا التّبن في ناحية والشّعير في ناحية أخرى ومعها ينقطع الجسد عن الرّوح وتنفصل الرّوح عن الجسد انفصالا سلسا لا رجعة فيه إلّا في رحم الأرض.
بعد عمل مضن وصبر دؤوب ترى الشّعير كومة كبيرة فتقول في نفسك:" ما شاء الله تبارك الله" وتسمع كلّ من مرّ غير بعيد منك يقول لك بصوت فيه الكثير من النّشوة:" ربّي ينزّل البركة" فتردّ والبشر يعلو محيّاك:" ما يقطع منك بركة." بعد الإنتهاء من التّذرية يأتي دور المكيال لتحديد صابة هذا العام، فيأخذ العمّ رجب" القلبة" بين يديه ويجلس على ركبتيه وكومة الشّعير أمامه ويبدأ في عمليّة الكيل وبكلتا حفنتيه يملأ "القلبة" ملءًا دقيقا ثمّ يفرغها في الكيس ومع ذلك لا ينسى أن يقول في كلّ مرّة يفرغ فيها الشّعير في الكيس" بركة" ويتواصل العدّ وتتزايد البركات داخل البيدر. يعدّ العمّ رجب ومع عمليّة العدّ ما عليك إلّا أن تركن للسّكون فلا ضحك ولا كلام ولا حديث، فالصّمت يعمّ أرجاء البيدر، تمتلئ الأكياس شعيرا وتمتلئ معها قلوبنا بشرا وفرحا بصابة هذا العام.غير بعيد من أكياس الشّعير ترى بعض النّسوة يغربلن ما تبقى من بعض الشّعير المختلط بالتّراب وبقايا التّبن، فيرقص الغربال ومعه ترقص الحبوب وتدور حول ذاتها دورات ودورات، ومع كلّ دورة تتجمّع الأحساك وتتكتّل فوق الحبوب بينما يسقط التّراب وتتناثر الحبوب الدّميمة من ثقوب الغربال، أمّا بقايا الحصيّات الصّغيرة فترتطم بالحبوب وتحاول الاختباء تحتها ناسية أنّ عين المغربلة لن تغفل عنها. أتأمّل في رقصة الغربال فأرى سحرا وجمالا وتحلّق بي ذاكرتي إلى أماكن بعيدة فأرى هذا الوجود غربالا.
تنتهي الغربلة فترى البيدر صار أكياسا من الحبوب وكومة من التّبن وكومة من الأحساك والحبوب الدّخيلة و بعضا من الحصى والتّراب، فأنظر إلى الصّابة وأقول في نفسي:"ما شاء الله تبارك اللهّ" ، ثمّ أمسح عرقا كان قد تصبّب من جبيني صبّا.
المنصف دادي
29-05-2021
الكاتب والباحث التونسي / المنصف بن إبراهيم دادي يكتب مقالًا تحت عنوان "يوم في البيدر"
Post A Comment: